منذ العقد الثاني من القرن الماضي تبلورت نواة مصرية شكلت بمرور الوقت ما عرف بمدرسة المواطنة, تلك المدرسة الي آمنت بقيمة الوطن, ورفعت شعار أنه للجميع والدين لله, قدمت تجربة رائدة في تعايش الأديان علي أرض مصر, ونجحت في تمتين هياكل الوطن, وجعلت من رجال الدين طاقة إيجابية وقوة مضافة إلي النضال الوطني, انتظموا ضمن المشروع الوطني وساهموا فيه. هذه المدرسة المصرية للأسف الشديد تعرضت للتآكل مع مطلع العقد السابع من القرن الماضي, مع تولي الرئيس السادات وبدء مشروع أسلمة أو خلجنة مصر, هنا بدأ رجال الدين في لعب دور سلبي, فعلي الصعيد الإسلامي تقدم من هم علي استعداد لتزويد الحاكم بكل ما يحتاج من مداد ديني لخدمة رؤيته, وعلي الصعيد المسيحي تصاعد التوتر مع النظام وترسخت رؤية سلبية متبادلة, وتطور الأمر إلي شفا حالة المواجهة. في تلك الفترة كان رموز مدرسة المواطنة المصرية يعملون علي منع التصعيد وتهدئة حدة الصراع وتولت هذه المدرسة تقديم عشرات الدراسات عن المواطنة والتعايش مع التنوع والاختلاف. وبدأت المشكلة في التفاقم مع تآكل قلب هذه المدرسة, فقد أدي تصاعد المد الديني وأسلمة المجال العام في مصر, وتزايد مساحة الدور السياسي للكنيسة, وما بدا من تراجع للدولة أمام بعض مطالب الكنيسة, أدي كل ذلك إلي عودة أغلب من عملوا في هذا الميدان إلي أرضية دينية/طائفية ضيقة, وهو ما أشار بوضوح إلي وجود أزمة حقيقة في المواطنة في مصر. وسط هذا المناخ السلبي حاولت مجموعة من المثقفين المصريين, ممن ساروا علي نهج مدرسة المواطنة في مصر استعادة زمام المبادرة من جديد من أجل إعادة تفعيل دراسات المواطنة من ناحية والعمل علي استعادة مصر المصرية لا الخليجية ولا الطائفية, وفي هذا المجال تأتي كتابات الصديق العزيز والمثقف المتميز نبيل عبدالفتاح, وهي كتابات مفعمة بروح مصرية أصيلة, تعمل دون كلل علي استعادة روح مصر ومزاجها المعتدل, تأتي أيضا الجهود التي يبذلها الصديق العزيز الأستاذ سمير مرقس الذي أنشأ مؤسسة المصري لدعم دراسات المواطنة وثقافة الحوار وهي المؤسسة التي صدر عنها الكتاب الأخير للأستاذ نبيل عبدالفتاح بعنوان الدين والدولة والطائفة: مساهمة في نقد الخطاب المزدوج وهو الكتاب الذي صدره نبيل عبدالفتاح بالمادة الثامنة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تقول بأن لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان, حريته في أن يدين بدين ما وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره, حريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو جماعة وأمام الملأ أو علي حدة. يبدأ نبيل عبدالفتاح كتابة هذا بتأكيد أن الحالة الدينية المصرية ليست علي ما يرام, علي مختلف محاورها ومجالاتها, حيث تسود نزعة وتزمت وربما تعصب وتشدد في أنماط الخطابات الدينية والممارسات والسلوكيات, وتزمت ونزعة محافظة, اجتماعيا وسياسيا ودينيا ومذهبيا, تبدو غلابة تسود الحياة المصرية, بينما تراجعت التجارب الروحية الشخصية أو الجماعة الحقيقية التي تؤدي إلي صقل جوهر الوجود والروح الإنساني علي نحو أدي ولايزال إلي نزعة تحاول حجب أو إضعا أو استبعاد أو التشويش علي قيم الحرية والأخوة والكرامة والعدالة والمساواة والتسامح ونصرة الضعفاء والمحبة والأخوة الانسانية.. يعالج نبيل عبدالفتاح في الدين والدولة والطائفية العوامل والأسباب التي أدت إلي تراكمات تاريخية تمس سلامة وأمان الحالة الدينية والمذهبية في مصر وتجعلها متوترة ومحتقنة ومأزومة. ويقول بوضوح شديد أن استمرار بعض مؤشرات التحول نحو الطائفية الاجتماعية والدينية والمذهبية في ظل نزعة تشدد ومحافظة وتعصب ديني, سوف يؤدي إلي إنفجارات من العنف المادي واللفظي والخطابي, بل وفي هوية الأمة المصرية والهويات المتفرغة عنها وعلي نحو يدوي إلي انتقال التوتر والأزمات الدينية المصرية الإسلامية والمسيحية أساس إلي مرحلة المسألة الطائفية بكل دلالات ذلك الخطيرة علي وحدة الدولة, الأمة واستقرارها. يؤكد نبيل عبدالفتاح في الدين والدولة والطائفية أن أحد أخطر ما يواجه الجدل العام في مصر هو ضرورة رصد وتفكيك وتحليل ونقد الخطاب أو الخطابات المزدوجة التي يصفها بأنها حاملة لنفاقها وكذبها ومراوغاتها والتباساتها وما تشيعه في حياتنا الدينية والسياسية والإعلامية والثقافية من أضاليل وتغييب للحقائق والمعلومات وترويج لخطاب الأكاذيب والغش والتدليس والخداع التي هي من صفات الخطاب المزدوج. وعلي مدار فصول الكتاب يقدم نبيل عبدالفتاح رؤية مصرية خالصة ومخلصة في نقد اللغة المزدوجة المراوغة التي أدت تحول الحالة الدينية في مصر من التوتر الديني إلي الطائفية, كل ذلك من منطق مصري يرمي إلي استعادة مصر المصرية سائرا علي درب مدرسة المواطنة التي فقدت الكثير من رموزها الذين تساقطوا لأسباب متنوعة, فهناك من ارتد إلي أرضية طائفية, وهناك من آثر السلامة وفضل الابتعاد عن هذه الأرضية المصرية تجنبا لمواجهة أو سعيا وراء جماهيرية غوغائية أو مكاسب مادية مضمونة.