شعور مزعج للغاية يصيبه عندما يستيقظ من النوم غير قادر على تذكر حلم رآه في الليلة الفائتة. يحاول فور استيقاظه أن يستجمع شتات الحلم بقوة فلا يستطيع.. يظل طوال النهار يفكر في الحلم المنسي، وأحيانا يقابله موقف يشعر لوهلة أنه مرتبط بذلك الحلم أو يذكره به، يشعر بالسعادة لأن ثمة خيطا قد يقربه من الحلم الهارب، ولكن سرعان ما تتبدد السعادة عندما يتشتت ذهنه فيتبخر الحلم. ذلك الصباح كان أحد تلك الصباحات المزعجة، جلس لدقائق على الفراش يحاول استعادة الحلم دون جدوى. وبعد أن أخذ حماما ساخنا، وبينما هو يحتسي قهوته راح يداعب ذاكرته لتمنحه لقطة من الحلم الموجود ولكنها لم تستجب. قضى يومًا مضطربًا في عمله، يسهو كثيرا وهو يراجع الأوراق التي طلبها مديره، ويشرد أثناء حواره مع زملائه في استراحة الغداء، ولأن للأحلام ألعابا لا يدركها البشر فقد نام في الحافلة بمجرد أن أسند رأسه إلى ظهر المقعد. عندما استيقظ كان يعرف أنه رأى حلمًا، ولكنه لم يستطع مطلقًا أن يلتقط حتى ولو صورة مشوشة من الحلم، رغم أن المسافة لم تكن طويلة، ورغم ثقته بأنه لم ينم سوى دقائق قليلة، فليس ثمة مجال لأن يكون قد نام فترة طويلة بعد الحلم، الأمر الذي قد يبرر النسيان. لطالما حدث نفسه بأن الأمر لا يستحق الاهتمام، وسأل نفسه ما المشكلة في نسيان حلم ربما يكون تافهًا، ولكن شيئًا من الإصرار كان يلازمه كلما هرب منه حلم، وكأنه صار في تحد كذلك التحدي الذي تدخله مع طفل يطرق بابك ليلا فيهرب، فتجد نفسك غير قادر على منع نفسك من مطاردته، والتربص به حتى تصطاده. حزمة من الإجراءات اتخذها في مطاردته المحمومة للأحلام، كان أولها، وأقساها، أن يقلص ساعات نومه، القليلة في الأساس، من خمس ساعات إلى ثلاثة فقط، كي يحاصر الحلم، ويضيق عليه مساحة الوقت، والذاكرة. من بينها أيضا إغلاق هاتفه المحمول وتعطيل الهاتف الأرضي حتى لا يشوشه أي طارئ أثناء النوم، بالإضافة للمكوث لدقائق في سكون تام مع إغلاق عينيه كوسيلة لخداع الحلم، والذاكرة معه، لعله، بين اليقظة والنوم، يستطيع أن يواصل الحلم وهو يمتلك بعضا من وعيه. كل هذه المحاولات باءت بفشل ذريع زاده حنقا، تحالف مع شحوبه الذي خلفه السهاد والأرق وطول التفكير. وكلما فشلت محاولاته ازداد إصرارا، واشتد عزمه على القبض على الحلم المراوغ. راح يقرأ بدأب كتبا تشرح كيفية السيطرة على النفس وتدريب الذهن وترويده، وراح يتابع محاضرات التنويم المغناطيسي، ويقرأ بشغف إرشادات تقوية الذاكرة، وتصفية الذهن، وبدا أمامه، بعد مرور عام أو أكثر، أن هذا تحد مصيري لا ينبغي أن يفشل فيه، بل إن احتمال الفشل فيه غير مطروح، فإما هو أو الحلم. ولما تحقق الانتصار بدا له أن الدنيا بما فيها قد دانت له حتى شعر أنه قد نال مأربه من الدنيا دون طمع في المزيد، وتبدت له شهور الفشل حلما كلما تذكره ازداد غبطة وهناء، رغم أن الحلم لم يكن سعيدا. يمشي على شاطئ خال من الرواد، تداعب أمواج دافئة رمله الساخن تحت شمس ساطعة في غير قسوة، تدغدغ الرمال قدميه العاريتين، وتمنحها الأمواج لمسة منعشة. على بعد غير يسير امرأة مكتملة الأنوثة، تقف كأنها خارجة من البحر، يبلغ الماء نصف ساقيها، وينسدل شعرها الأسود الداكن على كتفين زادتهما الشمس سطوعا، تداعب ملابسها كأنها تزمع أن تتخفف منها. كانت بعيدة بما يكفي لأن تضيع ملامحها، ورغم هذا شعر أنه المقصود بنظرتها، حاول الاقتراب ولكنها بإشارة من يدها منعته، فلم يستجب، مضى نحوها غير عابئ بالإشارة، تراجعت فتقدم في عزم، راحت المياه تعلو حتى غطت وسطها، عندئذ احتضنت الماء وراحت تسبح مولية ظهرها. زاده الفرار تصميما فقفز في الماء، مسافة طويلة من السباحة أنهكته ولما تقل سرعتها، ولكن عزمه حفزه على المضي قدما. عندما بلغها مد يده ليجذب الكتف المرمري فتمنعت، تشبث بإصرار وأدارها فانخلع قلبه، كان لها وجه ذئب. ربما لا يكون ذئبا على وجه التحقيق، ولكنه كان مفزعا بما فيه الكفاية ليتراجع مذعورا، ولما أفاق من صدمته كانت قواه قد خارت، وراح ينازع الموج بحثا عن الشاطئ الذي صار بعيدا. حلم رغم بشاعته حقق له سعادة لا توصف، شعر أنه أخيرا استطاع أن يمسك بفريسته المستعصية، وداخله شعور بالخدر بعد طول شقاء، وعرف أنه قد آن الأوان لأن ينعم بنوم هادئ. وفي الليلة التالية زاره الحلم نفسه بتفاصيله كلها، فانخلع له قلبه كما انخلع أول مرة، ولكنه جاء تأكيدا على تلجيم الذاكرة الحرناء. ولكن لأن للأحلام ألعابا لا يدركها البشر فقد لازمه حلمه المميت، الحلم نفسه بتفاصيله، الحلوة والمقيتة. صار يداهمه في كل مكان، في أي فرصة للنوم، أو لمجرد إغفاء صغيرة، في البيت، في فراشه أو على الأريكة، في المكتب أثناء استراحة الغداء، في الحافلة، في كل مكان يزوره النوم. راح يرود الذاكرة فحرنت ولم تستجب، كان يقوم من النوم مسرعا نحو الحمام ليشغل نفسه بإجراءات الاستعداد للذهاب إلى العمل، ولكنه ما إن يخلو إلى نفسه حتى تداهمه ذكرى الحلم، صار يتذكره فور استيقاظه، بل صار يوقظه من نومه في الفترة الأخيرة. الحلم نفسه لا يتغير، والذاكرة عصية على الترويد، والذهن غير قابل للصفاء، والوصفات، العلمية والخرافية منها فشلت، وفي كل ركن تجلى شبح الحلم السرمدي، حتى فارق النوم تماما، أو هو فارقه!