لعلها ليست مصادفة أن أهم شعراء الأغنية وأكثرهم ثقافة وتجديدًا هم الذين تصدوا لكتابة أغان ذات طابع شعبى، بمعنى أنها شديدة القرب من وجدان المتلقى البسيط ومحملة بعمق التجربة الإنسانية المصرية .. فنجد بيرم التونسى وفؤاد حداد وصلاح جاهين ومرسى جميل عزيز قدموا فى عشرات الأعمال تجارب قريبة من الأغنية الشعبية الأصلية مجهولة المؤلف التى عاشت فى وجدان الناس عقودا وقرونا دونما تدوين. وهؤلاء الشعراءالأربعة بالتحديد تجمعهم سمات كثيرة: أولاها البداية من اللغة العربية الفصحى وثانيتها تنوع مصادر الثقافة والتأثر بالأدب العالمى. فبيرم التونسى قرأ معظم عيون الأدب الفرنسى وهو يعمل شيالًا فى مكتبة هاشيت أثناء نفيه خارج البلاد، و حداد ترجم الى العربية «أراجون» وغيره من كبار الشعراء الفرنسيين، وصلاح جاهين أتقن الإنجليزية مثلما أتقن فن كتابة السيناريو ومسرح العرائس والرسم وأصبح علامة من علامات فن الكاريكاتير العربى. أما الشاعر الغنائى الكبير مرسى جميل عزيز فقد تعلم الإنجليزية والفرنسية كما تعلم العزف على آلة العود واشتهرت أغانيه بثراء الموسيقى الداخلية للكلمات، وأيضا أتقن فن التصوير الفوتوغرافى وراسل بصوره العديد من المجلات العالمية المتخصصة، فضلا عن دراسته فى معهد كتاب السيناريو سنة 1965و هو فى سن 42 سنة بينما هو فى قمة الشهرة والتحقق كمؤلف أغان، ولكنه السعى الى طلب العلم والتزود من الثقافة والمعارف. لهذا كانت الأغانى ذات الطابع الشعبى شديدة الرقى وتعبر بصدق عن حضارة وتاريخ هذا الشعب العظيم، عكس مايصل الى آذاننا الآن بالصوت العالى والإلحاح من كلمات مبتذلة وموسيقى «خبط حلل» تحت مسمى اغانى المهرجانات أو الغناء الشعبى الجديد!! وبينما تنتشر فى أغانينا الحالية موجة من العنف والتردى الأخلاقى بعبارات مثل «هاتى بوسة يا بت.. هاتى حتة يا بت» و«هاعورك والخبط لك منظرك», كانت الأغنية الشعبية فى الماضى تحمل أرق المعانى وأكثر الصور الشعرية كثافة وقدرة على الإبهار. يقول مرسى جميل عزيز على لسان حسن المغنواتى فى فيلم حسن ونعيمة: «الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا فى البساتين.. والحلوة م الشباك طالة يحرسها الله ست الحلوين».. حتى المغازلة كانت رقيقة ومقرونة بالدعاء الجميل «الحلوة حلوة وسنيورة زى الصورة مرسومة تمام .. الشفة وردة فى عنقودها أما خدودها تفاح الشام». وتختتم وصلة الغزل بجملة تشير الى نخوة وشرف اولاد البلد «يامين يوصلنى لابوها ولا لآخوها واطلبها قوام». كانت كلمات ذلك الشاعر الكبير هى بوابة دخول أغلب المطربين فى عصره الى وجدان الجماهير .. فمثلما حقق محرم فؤاد نجاحه بالحلوة داير شباكها ورمش عينه، تألقت شادية بشباكنا ستايره حرير و على عش الحب والحنة الحنة ووعد ومكتوب و وحياة عنيك وفداها عنياو غيرها، واكتسب محمد قنديل شعبيته الجارفة من تلات سلامات وياحلو صبح ويا مهون. وكانت اغنية يا مزوق يا ورد ف عود لعبد العزيز محمود هى أول ما كتب مرسى جميل عزيز فى سن 18 سنة. ولكن اعظم اعماله فى تصورى كانت مع عبدالحليم حافظ ومنها فى يوم فى شهر فى سنة وبتلومونى ليه وحبك نار وأبو عيون جريئة وراح ويا خلِىّ القلب وأعز الناس وليه تشغل بالك وبلاش عتاب وغيرها من أغان ناجحة. فضلا عن تجارب ذات طابع خاص مثل استعراض قاضى الغرام وموال أدهم الشرقاوى والذى بدا وكأنه من الموروث الشعبى بالفعل، أو كأنها سيرة تروى على الربابة وتترجم الأحداث الدرامية للفيلم. ومع محمد فوزى قدم أى والله اى والله والشوق الشوق، وكتب لنجاة الصغيرة اغانى ذات ملمح شعبى منها عطشان يا اسمرانى التى عرفتها بالجماهير وأما براوة، وأغانى أخرى رومانسية عديدة منها غريبة منسية وحبيبى لولا السهر وأنا باستناك. أما فايزة أحمد فاشهر أغانيها يامة القمر عالباب وأنا قلبى اليك ميال ويالأسمرانى وقلبى عليك ياخى وبيت العز يابيتنا.. كلها تحمل توقيع مرسى جميل عزيز. وتقريبا لا يوجد مطرب واحد عاصر ذلك الشاعر الرقيق إلا وتعاون معه وأسهم كل منهما فى صناعة تاريخ الآخر.. حتى فيروز التى لم تتعاون الا مع الأخوين رحبانى اختارت من اشعاره قصيدة «سوف أحيا» لتضمها الى سجل أغانيها الخالدة من الأشعار العربية. أما كوكب الشرق أم كلثوم فتعاونت معه ثلاث مرات فى أغانى فات الميعاد وسيرة الحب والف ليلة وليلة. بينما كان التعاون مع الموسيقار عبد الوهاب بعد رحيل الشاعر حيث اختار ان يغنى له آخر أغانيه من غير ليه. وقد استطاع الرجل الملقب بشاعر الألف أغنية، وإن كان قد تجاوز هذاالعدد، أن يضع بصمة التجديد فى الأغانى الوطنية وأن يحررها من قالب الأناشيد الحماسية فنراه فى أغنية بلدى يابلدى والله احلويتى يابلدى يستحضر أجواء الأفراح إلى ساحة الوطنية ويستحضر فى مناسبة أخرى طقوس التجريس، وهى عادة كان يمارسها أولاد البلد فيما مضى لمعاقبة من يرتكبون التصرفات المعيبة، وذلك فى استهزائه من الخونة قائلا «ياعديم الإشتراكية يا خاين المسئولية هانزمر لك كدهو ونطبل لك كدهو». وكانت جرأة من العندليب الأسمر أن يتخلى عن الوقار التقليدى للمطرب العاطفى ويقدم هذااللون المجدد فى اطار الأغنية الوطنية. وتعد كذلك أغنية الفوازير لعبد الحليم تجربة جديدة مستلهمة من فكرة الفوازير الشعبية. كمااستخدم مرسى جميل عزيز اسلوب الإغاظة والانتقام من الحبيب المخادع فى اغنية والنبى لنكيد العزال والتى تلخص احداثًا درامية كثيرة ويصبح الفيلم من دونها مبتورًاوغير مفهوم. كان شاعرنا الراحل شديد الذكاء والحذر وهو يستخدم تعبيرات وصيغ الفن الشعبى ويدفع بها على ألسنة مطربين مشهورين بالتحفظ مثل عبد الحليم حافظ ونجاة وفايزةوعفاف راضى. ولكنه عندما كتب لعبد المنعم مدبولى استعراض "ياصبر طيب" اختار القالب الإنسانى المثير للشجن بل وقدمه فى صورة اقرب الى المأساة التراجيدية .. وهو بالطبع ما يخالف توقعات المشاهدين ويحدث الصدمة المطلوبة لاسترعاء الانتباه.. وتكاد تشعر فى اغنية يا صبر طيب أن الكلمات خرجت بالفعل بشكل عفوى من فم الشخصية التى يجسدها مدبولى. وهى مهارة خاصة فى كتابة الأغنية الدرامية تحتاج ربما الى دراسة مطولة لإبداعات ذلك الشاعر الكبير والذى غادر حياتنا فى 9 فبراير عام 1980 مخلفًا أكثر من الف أغنية ناجحة ستبقى تحتفى به فى وجدان كل متذوق عربى.