بعد 15 عاما من الدعوة الخليجية لإنشاء "بنك الفقراء" في مصر، تكررت الدعوة مرة أخرى، في الأيام القليلة الماضية، حين أعلن الأمير طلال بن عبد العزيز ،رئيس برنامج الخليج العربي للتنمية، أن مصر بحاجة لأكثر من بنك فقراء يطبق آلية الاقتراض متناهي الصغر. وبخاصة بعد أن حقق المشروع نجاحا كبيرا في الدول التى تم تأسيسه فيها، وهي:الأردن ، سوريا ، اليمن والبحرين. الفكرة التى طرحتها مؤسسة الخليج العربي للتنمية "أجفند"، في التسعينيات، والتي يرأسها الأمير طلال لم تكن الأولى من نوعها ، فقد سبقتها العديد من الأفكار والمراجعات الفكرية التى تبحث في نفس الهدف. فى نهاية السبعينيات ،واستلهاما لروح التجربة البنجالية، تشكل فريق عمل مصري يضم عددا من الأكاديميين والمثقفين ، لدراسة وتنفيذ بنك لخدمة الفقراء ، على غرار بنك "جرامين" في بنجلاديش الذي أسسه أستاذ الاقتصاد في جامعات بنجلاديش محمد يونس عام 1976 ، حين اكتشف أن الخروج من دائرة الفقر لايمكن أن يحدث عن طريق المؤسسات العادية . وقد وضع يونس أساس نظام تمويل غير تقليدي، يقوم على تقديم قروض للفقراء دون أية ضمانات، وبدأ بتقديم قروض لاتزيد قيمتها على 27 دولارا لمجموعة قروية فقيرة من السيدات ، تم استغلالها في إقامة بعض المشاريع الصغيرة كتربية الدواجن وإنتاج الألبان ، وتطورت فكرته إلى بنك "جرامين"، الذي أقرض أكثر من 7 ملايين فرد منذ بداية عمله ،أغلبهم من السيدات، مشترطا سداد قيمة القرض قبل الحصول على آخر. لكن التجربة المصرية توقفت بعد 3 سنوات من العمل والبحث الأكاديمي لأسباب أمنية ، كما قيل وقتها، وتوجت تجربة يونس بحصوله على جائزة سيمون بوليفار الدولية التابعة لمنظمة اليونسكو عام 1995 نظرا لتجربته الفريدة، ثم حصل على جائزة نوبل في عام 2006 لنفس السبب. ومع حصوله على جائزة اليونسكو، منتصف التسعينيات، عادت الفكرة المصرية للظهور مرة أخرى ، وتزامنت معها الدعوة الخليجية لإنشاء بنك الفقراء، لكن كلتا الفكرتين لم يقدر لهما دخول حيز التنفيذ ، وواجهتهما العديد من العقبات البيروقراطية ، حتى تم الاتفاق على إنشاء كيان واحد تحت مسمى "مؤسسة الأمل المصري" وتهدف إلى ما يهدف له بنك "جرامين" البنجالي. يستعيد دكتور محمود منصور،أستاذ الاقتصاد بكلية زراعة الأزهر الأمين العام لمؤسسة الأمل المصري، ذكرياته عن قيام المؤسسة ، قائلا "سنة 1996 دعونا الدكتور محمد يونس لزيارة مصر،وطرحنا عليه إنشاء بنك مشابه لبنك جرامين في بنجلاديش، فاقترح علينا إنشاء شركة أو مؤسسة بدلا من البنك، لأنه يحتاج إلى مبنى ضخم وموظفين ونفقات كبيرة، وفى نفس الوقت رفضت الحكومة المصرية فكرة البنك وقالت إن هناك بنك ناصر، ومن الممكن أن نساهم فيه بتزويد رأسماله وهو يعمل لخدمة الفقراء" . ويضيف منصور: "وفى الوقت ذاته أيضا، كانت هناك دعوة من الأمير طلال بإنشاء بنك للفقراء في مصر، وواجه أيضا عقبات، فحدثت بيننا وبين برنامج الخليج الذي يموله الأمير طلال شراكة أنتجت مؤسسة الأمل المصري،وساهم الأمير طلال ب1/2 مليون دولار لبداية المشروع وكان النصيب الأكبر" . ويؤكد منصور أن المؤسسة "الصغيرة" بدأت عملها فور تجهيزه المقر، منتصف التسعينيات، وظلت تعمل حتى وصل رأسمالها ،اليوم، إلى 24 مليون جنيه ، من أموال وطنية مصرية، مشيرا إلى أن المؤسسة قدمت 24 ألف قرض ، مضيفا "كل قرض يشغل مشروعا أو اثنين،وهو عبارة عن مشاريع عائلية وتجارية وزراعية صغيرة ،يستفيد منها 130 ألف شخص فقير". والمثير للدهشة، أن فكرة "أجفند" أو الأمير طلال قد نفذت ،بالفعل، في مصر وبمشاركته فيها ، عن طريق مؤسسة الأمل التى يرأس مجلس أمنائها ، وبالتالي فإن دعوته "الجديدة القديمة" بإنشاء "بنك الفقراء" في مصر ، بعد إنشائه في 4 دول عربية أخرى ، وإصراره على دخول مصر ضمن لائحة دول بنوك الفقراء، قد قوبل بالرفض والتساؤل من عدد من الاقتصاديين ، بعضهم يرى أن مصر لاتحتاج إلى بنك للفقراء ، وبخاصة أن رأس المال الاجتماعي فيها متطور جدا ، وأن هناك العديد من المنظمات والمؤسسات التى تقوم ، فعليا ، بنفس الدور المنتظر من بنك الفقراء ، والبعض الآخر يرى أن دعوة "الأمير" الغرض الوحيد منها "الدعاية الإعلامية" والتفاخر بأنه صاحب "بنوك الفقراء" في الدول العربية الفقيرة ، وتحديدا، مصر. يقول الدكتور منصور، إن مصر لديها العديد من المؤسسات التى تغنيها ،في الوقت الحالي، عن إنشاء مثل هذا البنك ، مضيفا "رأس المال الاجتماعي لدينا متطور جدا ، بمعنى أن لدينا جمعيات أهلية ومؤسسات كثيرة تقوم بما يقوم به بنك الفقراء وهو خدمة الفقراء" ، مشيرا إلى أن نموذج "البنك" الذي طبق في الدول العربية الأخرى ، ساهم فيه الأمير طلال ما بين 30 إلى 35% ، وباقى رأس المال جاء بمساهمات من الحكومة والقطاع الخاص ، وبالتالي تصنف بأنها بنوك وطنية ، موضحا أن "مؤسسة الأمل" التى يشارك فيها تخدم نفس الهدف "وإذا كان يريد إنشاء البنك لمساعدة الفقراء ، فليعمل من خلال المؤسسة التى يشارك فيها" ، مضيفا: "تم عرض نماذج تلك البنوك في المؤتمر الذي دعى فيه الأمير طلال لإنشاء البنك في مصر،وتحصل تلك البنوك على عائدات كبيرة جدا من المشاريع التى تنفذ بالقروض التى يتم منحها للفقراء، حتى يتم إنفاقها على مرتبات الموظفين والمباني الضخمة والسيارات والكهرباء وغيرها" . ويكمل منصور "لكن مؤسسة الأمل تحصل على عائد بسيط جدا من المشاريع التى تنفذ بالقروض التى تمنحها،وتصل الفائدة التى نحصل عليها إلى 8% وهى أقل عائد في مصر" ، مشيرا إلى أن بنك الفقراء الأول في بنجلاديش ، فقد هويته أخيرا، ولم يعد بنكا لإقراض الفقراء، بل أصبح أحد البنوك الإستثمارية التى تحصل عائدات كبيرة جدا . وأضاف: "تم عزل الدكتور محمد يونس من منصبه في البنك منذ عامين ، بعد أن تاهت فكرته الأساسية التى نشأ من أجلها". ولكن الدكتور شريف دلاور ،الخبير الاقتصادي، يرى أن الحديث عن إقامة بنك الفقراء في مصر يعني أنها ستزداد فقرا وسوءا في الفترات المقبلة، قائلا: "شعب مصر قام بثورة يقلده العالم كله فيها ، ويجب أن تكون الأفكار والمقترحات واردة منا وليست مستقاة من أى دولة أخرى"، مشيرا إلى وجود الكثير من المشروعات الحرفية والصغيرة التى تمولها جمعيات ومؤسسات أهلية لمساندة محدودي الدخل ، مضيفا: "لدينا مشروعات رائدة نابعة من جمعيات في الإسكندرية والقاهرة وأسيوط وغيرها من المحافظات التى تمنح قروضا للفقراء وتسهم في قيام العديد من المشروعات المتوسطة والصغيرة ، وحصلت تلك الجمعيات على جوائز محلية وعالمية". ونفى دلاور أن تكون مصر في حاجة لمشروع مثل بنك الفقراء، قائلا "حتى كلمة الفقراء صعبة جدا ، والفقراء الحقيقيون في مصر لديهم من الكرامة ما يمنعهم من اللجوء إلى هذا البنك حتى لو كانوا في أشد الحاجة إليه". ويضيف "دلاور" أن ما نحتاج إليه فعلا هو تطوير المؤسسات الموجودة بالفعل ،وكذلك الصندوق الاجتماعي للتنمية ليستطيع مع المؤسسات الأهلية مساندة كل المحتاجين وتوفير حرف ومشاريع خاصة بهم، موضحا أن من يدعو لإقامة بنك الفقراء لايعرف جيدا وضع مصر "فآليات الاقتصاد التحتي عندنا كبيرة جدا بالإضافة الى الجمعيات الأهلية ، وفى حال تضافرهما معا واستغلالهما بشكل جيد، سنقضى على الفقر تماما. ويستطرد: حسب تقارير الأممالمتحدة،الفقر النسبي في مصر يصل إلى 43% وهم القادرون على الطعام والشراب ، لكن لا يتوافر لهم التعليم والصحة، أما نسبة الفقر المدقع لا تتعدى 3,4%وهم غير القادرين على الطعام والشراب" ، مضيفا "فضلا عن أن فكرة بنك الفقراء نوقشت في كثير من المؤتمرات المصرية وعلى مدار سنوات عديدة انتهت المؤتمرات إلى أنه لا يصلح قيام مثل هذا المشروع في مصر". وهو ما يعني، في رأي "دولار"، أن الغرض من طرح الفكرة الآن إعلامي ليس أكثر. من جانبه، وافق الدكتور ياسر كمال، الخبير بمركز دراسات الاستثمار والتخطيط وإدارة المشروعات بمعهد التخطيط، على قيام مشروع بنك الفقراء في مصر ، قائلا "هو نوع من أنواع التكافل الاجتماعي ، وأتمنى أن يتحقق في مصر"، مضيفا "لكني أعتقد أنه إذا طبق أولا نظام الزكاة في مصر بشكل صحيح فلن نكون في حاجة لتنفيذ هذا المشروع".