مع كل تصريح وإعلان جديد من جانب الدولة بخصوص بدء تنفيذ مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان يثار جدل اقتصادي حول كيفية رفع فرص نجاح هذا المشروع الذي يعتبره كل من تابعة بأنه بمثابة تكوين جديد علي أسس اقتصادية وتنموية لما يسمي "الريف المصري الجديد". والمشروع منذ بدايته لم يقتصر الرؤية فيه علي استصلاح الأراضي ولكنها شملت منذ البداية سعيًا دؤوبًا لتكوين مجتمع تنموي اقتصادي متكامل يعتمد في الأساس علي المنتجات الزراعية وتصنيعها وإقامة مجتمعات عمرانية متكاملة معها تكون بمثابة امتداد وانتقال اقتصادي للوادي القديم دون أن تنفصل عنه لتحل بذلك مشكلة رئيسية واجهتها التجارب السابقة للزراعة الصحراوية تمثلت في أن انفصالها عن مناطق الوادي القديم جعل العمالة بها ليست راغبة في تكوين المجتمع العمراني المستهدف إلا أن اختيار مناطق المشروع الجديد بالقرب من طرق تربطه بالوادي القديم وفي مواقع جغرافية قريبة من الوادي خاصة في صعيد مصر سيساعد في اجتذاب الفئات المستهدفة من العاملين والمزارعين في الحصول على مسكن ملائم طبقًا لاحتياجاتها وقدرتها على الدفع. لقد بنيت فلسفة هذا المشروع منذ البداية علي استحداث تجمعات عمرانية جديده بمجموعة متكاملة من الخدمات والمرافق وفتح آفاق جديدة لتنمية الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي وذلك من خلال بناء تجمعات عمرانية جديدة قائمة علي قواعد اقتصادية سليمة زراعية وصناعات تكميلية مع فتح آفاق جديدة لتصدير سلع ذات قيمة تنافسية واستخدام التكنولوجيا الحديثة والميكنة في التنمية الزراعية والصناعية. إن التحدى الأول للتنمية في هذا المشروع فهو الانتقال بالتفكير و التطبيق إلى نماذج تقوم على القدرة على المنافسة وتحقيق الربحية وبالتالى فإن التسويق محليًا أو عالميًا ليس ناتجًا وانما هدف أساسى يحقق الربحية والاستدامة وبدون ذلك ستصبح التنمية عملية شديدة الصعوبة لافتقارها إلى عامل الاستدامة أما التحدى الثانى والأخطر هو العنصر البشرى اللازم لمستويات الجودة، وبالتالى الربحية والقدرة على المنافسة والاستمرارية والتأهيل اللازم لتلك العناصر أيضًا مهم جدًا مما يضع عناصر الجذب للمشروع من الكوادر البشرية من الأهمية البالغة التى يجب إدراجها ضمن منظومة الأهداف الاستراتيجية لهذا فإن هناك ضرورة إستراتيجية لتصميم برنامج تدريب وتأهيل للمشاركين في المشروع وتدعيم إنشاء مدرسة ثانوية زراعية متخصصة وأكاديمية زراعية بالتعاون مع مؤسسات دولية ضمن المشروع. كذلك فإن وضع رؤية وأهداف واضحة للمشروع مع معايير واضحة للقياس زمنية وادائية وليست أهدافًا عامة كما أن اعتبارات مثل الربحية والاستمرارية والقدرة على المنافسة تمثل عوامل أساسية وليست اختيارية للمشروع ومن شأنها أن تحدد التصنيف الاستراتيجى للمشروع كمشروع تنموى وليس زراعيًا فقط. أما العنصر الأكثر أهمية هنا فهو ان وجود كيان مستقل يدير المشروع ويحقق أهدافه الاستراتيجية وينسق مع كل الجهات المعنية هو الحد الفاصل بين ان يكون المشروع نقطة انطلاق لمشاريع أخرى وبسرعة وكفاءة وبين أن يصبح المشروع عبئًا جديدًا يستلزم مجهودًا لمعالجة أثار فشله أو تعثره ومن المهم ان يكون لهذا الكيان مايلزم من استقلالية تمكنه من إنفاذ مايلزم لتحقيق الأهداف الموضوعة للمشروع وهو ما حققته الحكومة المصرية عندما أعلنت عن تأسيس شركة " الريف المصري الجديد " وإقامة المشروع بنظام المناطق الاستثمارية كتطبيق جديد ورائد لتعديلات قانون الاستثمار المصري. كذلك فإن نموذج المشروع يجب أن ياخذ فى الاعتبار الموازنة بين مناخ الاستثمار الإقليمى والدولى لتحقيق التنافسية والقدرة على جذب الاستثمارات للمشروع واحتياجات الدولة المتوقعة من المحاصيل الزراعية والأنشطة الاقتصادية ذات الصلة بطبيعة المشروع وإتاحة فرص عمل، بالإضافة إلى تأثير المشروع من الناحية الاقتصادية والناتج الإجمالى للدولة. ويجب عدم إغفال الظروف المعيشية والمجتمعية والثقافية بين المناظق المختلفة مثل مناطق الصعيد، مما يشير إلى أهمية عدم وجود نموذج موحد أو منمط للمناطق كلها بل نموذج تنموي مرن يتماشي مع طبيعة كل منطقة. وفي حالة تحقيق هذه الرؤية التنموية فإن هذا المشروع سيتاح له أن يصبح رمزًا للتغير لمستقبل أفضل في مصر عن طريق إعادة التوزيع الجغرافي والربط السليم في المخطط العمراني لمصر بما يحقق تنمية إقليمية متوازنة تحد من المركزية الشديدة لإقليم القاهرة الكبرى والمدن الكبري بمصر بحيث يكون التوزيع السكاني مرتبطًا بالموارد الطبيعية المتاحة في سبيل الارتقاء بنوعية وجودة الحياة داخل المستقرات العمرانية الجديدة. ويحقق هذا البعد التنموي الإدارة المتكاملة للموارد في تنمية المستقرات الجديدة لخلق فرص العمل والسكن المناسبة مع زيادة الاعتماد على موارد الطاقة الجديدة والمتجددة والطاقة النظيفة واستحداث بيئات سكنية جديدة تتناسب مع مقومات وإمكانات مصر الهائلة، تعتمد على مواد البناء المحلية والتقنيات الجديدة والمتوافقة مع البيئة . نقطة أخيرة أتصور إنها كانت الأكثر إثارة للجدل في هذا المشروع وهي مصطلح قديم حديث في مصر يسمي "اقتصاديات المياه" وكيفية تحقيق أعلي قدر من الاستفادة منها لهذا ففي ضوء الأوضاع الحالية التي تواجه قطاع المياه في مصر أري أنه أصبح من الضروري تكوين لجنة عليا أو مجلس أعلي لتحديد السياسة المائية لمصر خلال الخمسين عامًا القادمة وتحديد البدائل المتاحة لعمليات استخدام المياه ورفع القيمة المضافة منها وآليات ترشيد الاستهلاك ووضع اقتصاديات لتحلية المياه وتطوير نظم الري والصرف في مصر، بالإضافة إلي تحديث المنظومة الحالية لمياه الشرب ووضع بدائل جديدة لمعالجة مياه الصرف وتحديد آليات الاستفادة من مياه الأمطار والخزان الجوفي المصري وربط التوسعات العمرانية بهذه الاستراتيجية.