رصد الصحفي (روبرت إف وورث) ما وصفه ب"أزمة مصر القادمة" في تقرير مطول نشرته جريدة "هيرالد تريبيون" الأمريكية قبل يومين، جاء فيه: بعد 3 أشهر من اندلاع الثورة، مازالت مصر تبحث عن ذاتها، فقد حقق شبابها أكثر مما تمنوه والمتمثل في الإطاحة بحكم الرئيس السابق حسني مبارك بعد 18 يومًا من الثورة، ومع تدفق الثوار على ميدان التحرير استطاع الشباب أن يخلصوا أنفسهم من الموالين للرئيس السابق، بمن فيهم أحمد شفيق، رئيس الوزراء الذي عينه مبارك. لكن المحتجين استمروا فى المناداة بإصلاحات أعمق من ذلك، وقد بدا ذلك فى ظهور اعتصامات العمال فى جميع أنحاء مصر، للمطالبة بتحسين أجورهم، والإطاحة برؤسائهم ممن تولوا مناصبهم فى عهد مبارك. وقد نقل الكثير من المصريين حماس الثورة من ميدان التحرير إلى حياتهم اليومية، وذلك من خلال الحملات الإعلانية التي كانت تحث المصريين على التوقف مثلا عن الغش وإلقاء النفايات بالشوارع وكذلك إشعال الفتنة الطائفية، وكانت أبرز شعارات هذه الحملات "مصر بتتغير وأنا بتغير". رغم كل هذه الشعارات التي تحث على الوحدة الوطنية، إلا أن معظم الإضرابات كانت ترتكز على المطالب الفردية أو ما يسميه المصريون "مطالب فئوية". نضال ثوار التحرير لم ينته بعد، فهم منشغلون الآن بالثورة المضادة من قبل رجال مبارك، "أحيانا النظام الذي يسقط يكون أكثر خطورة من النظام القديم"، وفقا لما قاله الروائي علاء الأسواني، الذي لعب دورا مهما، وقياديا بميدان التحرير. "الخبز.. الحرية..العدالة الاجتماعية"، كانت أكثر الشعارات انتشارا بين الثوار بميدان التحرير، ولم يأت ترتيب هذه الكلمات من قبيل المصادفة، فإن العديد من المتظاهرين الفقراء الذين تكدسوا بميدان التحرير قبل تنحي مبارك، كانوا أقل قلقا بشأن الحريات المدنية والانسجام الطائفي عن الحاجة المادية الملحة". كثيرون حذروا من تولي الإسلاميين الحكم، حيث يمكنهم تولى السلطة فى مصر من خلال صناديق الاقتراع فقط، وذلك لفرض دولة دينية على النمط الإيراني، وكلها مخاوف لا أساس لها لأن هناك أشخاصًا محددين فى مصر والعالم العربي لا يريدون أن يروا ثورة شعبية ناجحة، ولذلك فإن الاسلاميين أنفسهم يواجهون حركات تمرد داخلية، كما أن جميع الأحزاب يعلمون أنهم مراقبون. وفي ظل سقوط الاقتصاد المصري الحر وارتفاع معدلات التضخم والبطالة بين 83 مليون مصري، فإن كل ما حققه الثوار معرض للخطر، فهناك بوادر للانحدار، فمثلا اشتباكات الشوارع في أحد الأحياء الفقيرة بالقاهرة (إمبابة) في يوم 7 مايو بسبب الشائعات التي تشعل الفتنة الطائفية، أسفرت عن وقوع عشرات القتلى واحتراق كنيستين. في الأيام الأولى بعد سقوط مبارك كان الكثير من المصريين يخشون أن يحكم المجلس العسكري بصفة دائمة، وفى المقابل كانت قيادات الجيش حريصة على إرضاء الشعب خوفا من أن يصبحوا الهدف القادم. الحكام الحقيقيون لمصر هم شباب التحرير الذين دفعوا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لتقديم المزيد من التنازلات وذلك من خلال احتجاجاتهم المستمرة، حتى إن الدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء، يبدو أسيرا لهم فبعد أن اختاره المجلس لمنصبه فى مارس من هذا العام، توجه بعدها إلى ميدان التحرير وقام الشباب بحمله على أكتافهم وذلك بعد أن قال لهم "أنا جئت من هنا وأستمد شرعيتى منكم". أيضا قلق المصريين من الانتخابات ينبع من خوفهم من الإسلاميين، وخاصة جماعة "الإخوان المسلمين" حيث تعتبر التنظيم المصري الأكثر قوة سياسيا واجتماعيا. يبدو أن جراثيم الثورة أصابت الحركات الإسلامية في مصر، وفقا لما قاله محمد الجبة، عضو جماعة الإخوان البالغ من العمر 26 عاما، فى مكتب بميدان طلعت حرب بالقاهرة، وهو عضو بارز فيما يسمى "جناح الشباب" بالجماعة، وعلى الرغم من أن هذا الجناح لا وجود له رسميا في الجماعة، إلا أن وجهات نظر محمد وآراءه تبدو ليبرالية نسبيا، حيث قال إن الجماعة لابد أن تفسح المجال بشكل أكبر لحقوق المرأة، وأن تكون أيضا أكثر تسامحا من وجهة النظر العلمانية". "تفكيرنا على غرار الإصلاحيين الذين تركوا الإخوان" قالها الجبة معلنا إصراره على البقاء والاستمرار فى العمل، محمد الجبة وأعضاء آخرون من الشباب بالجماعة أصبحوا أكثر انفتاحا في ظل التحديات التى تواجهها الجماعة التي مازالت تهيمن عليها المجموعة القديمة. قال الجبة: "إذا كان الإخوان يعتقدون أن بإمكانهم تغيير المجتمع المصري، فهم بذلك عبارة عن مجموعة من الأغبياء والمغفلين"، وأضاف: "المشكلة فى استخدام الدين فى سياق سياسي هي أنه فى النهاية يصبح الدين على جانب وكل شيء على جانب آخر، ويبدو وكأنه ضد الدين"، وتعتبر هذه الكلمات بمثابة "اللعنة" لعقيدة الإخوان ولكن يمكن سماعها بشكل متزايد الفترة القادمة من الأعضاء الصغار. يعتقد إسلام لطفى، عضو آخر في الجماعة من الشباب، وكان من أوائل المشاركين في ثورة يناير، أن مهمة الجماعة أصبحت متحجرة، نظرا لأنهم يعتقدون أنهم فقدوا الخلافة الإسلامية منذ أكثر من 80 عاما، ولذلك فإن المناداة بفكرة "الدولة الاسلامية"، تأتى كرد فعل لهذه الخسارة. وأنه يريد أن يرى رؤية حقيقية تجعلنا نتوافق مع العالم دون أن نفقد هويتنا الإسلامية. ويرى لطفى أن جيل الشباب غير راض عن ثقافة الإخوان بالكامل، ووصفها بأنها "بناء من الطاعة"، وأضاف: "لابد أن تنقل الناس من كونهم مجرد عساكر شطرنج.. فسواء الإخوان أو المجتمع المصري ككل فنحن دائما نترك القرار للآخرين.. فالابن يترك الأب يختار له وظيفته، والمرأة تترك لوالدها حرية اختيار عريس لها"، وقال إسلام إنه سمع هذه الكلمات مرارا وتكرارا من الشباب بميدان التحرير، فى إطار الاستجابة لنداء مبارك بأن يُعامل بكل الاحترام الواجب للأب، وعلق إسلام قائلا: "لكن مبارك ليس أبي"، ووصف هؤلاء الأشخاص بأنهم يفكرون فى السلطة بشكل يختلف جذريا عن والديهم. الكلمات نفسها سمعها إسلام لطفى منذ أسبوعين على شاشة التليفزيون من مجموعة من الشباب المتمردين فى ليبيا، وكذلك عندما وصف الرئيس اليمني علي عبدالله صالح كل الشباب المحتجين والرافضين لنظامه بأنهم مدعومون من واشنطن وتل أبيب، لذلك فإن هذه اللغة القديم يستخدمها الطغاة العرب منذ سنوات عديدة لتبرير حكمهم. لم تتأثر جماعة الإخوان المسلمين وحدها بموجة التغيير، لكن هناك جماعات أخرى ظهرت منذ اندلاع الثورة، عاش معظمها فى الظلام سابقا، وأكثر هذه الجماعات شهرة هي الجماعة الإسلامية، الجناح العسكري المسئول عن الحملات الإرهابية خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، والتى راح ضحيتها مئات السياح والجنود والمدنيين ورجال الشرطة فى مصر. تقابلت مع رجل بمنتصف العمر يعمل رئيسًا للأمن بأحد متاحف القاهرة، حيث أخبره بأن مسئولي وزارة الثقافة اختلسوا أموالًا كثيرة من المتحف بغرض شراء أجهزة إنذار وكاميرات للمراقبة والتى توقفت عن العمل، وتمت سرقة لوحة الفنان "فان جوخ" في نهاية شهر أغسطس، والتي تقدر قيمتها ب50 مليون دولار، رغم أنه كان من الممكن أن يقوموا بتصليح الكاميرات ببعض الجنيهات، لكنهم أخذوا هذه الأموال لأنفسهم. أضاف الرجل أن مواجهة هذه المشكلة لن تأتى من خلال تغيير الثقافة وحدها، لكن إذا استمر ضباط الشرطة وموظفو الخدمة المدنية فى تقاضيهم لرواتب متدنية، سيستمرون فى طلب العملات والرشاوى. تقابلت مع زكريا محيي الدين أحد الثوار الشباب الذي اصطحبني معه إلى قريته في دلتا النيل، وقبل مغادرتنا للقاهرة كان زكريا يركز على زيادة الوعي السياسي، ولكن في مدينة كفر شكر ذلك الصباح وجد نفسه محاطا، بالمواطنين الذين يرون أن الخبز والزبد سيحددا نتيجة الثورة. انظر في كل مدينة ستجد 10 آلاف مع هذا الحزب و10 آلاف مع حزب آخر، قالها مهندس في كفر شكر وأضاف: ستجد 60 ألفا يريدون فقط أن يكون اللحم والجبن أرخص سعرا. ولاحقا في اليوم نفسه تحدث زكريا باندهاش عن التغييرات التي طرأت على مصر في وقت قصير، وقبل شهرين من اندلاع الثورة كان زكريا في بلدته لحضور الانتخابات البرلمانية وقابل اثنين من الموظفين المحليين وحكوا له بتفاخر كيف قاموا بتزوير مئات من بطاقات الاقتراع لصالح المرشح الذي ينتمي للحزب الذي يرأسه مبارك، وكيف طردوا المراقب خارج لجان الاقتراع. كم كان هذا مروعا كما قال زكريا، الذي أضاف: كنت أريد أن أقول لهما إن مافعلاه جريمة، لكن المرشح الذي قاما بتزوير البطاقات من أجله، هو ابن عمي. زكريا الذي يحتقر نظام مبارك، سكت ثم قال: لا شىء.. لكي تنتقد هذين القرويين فإن ذلك يعتبر إهانة وربما يكون انتهاكا لأعراف القرية. الآن أصبح ابن عمه منبوذا في المدينة ولا أحد يرى وجهه هناك، وهو قابع في منزل عائلته القديم، محاطا بصور أجداده الراحلين. محيي الدين استمع إلى رجل تلو آخر وهم يصفون المدينة المألوفة لديهم وهي تتحول تماما. بعد عدة ساعات في طريق العودة للقاهرة، الطريق مقسم لأربع حارات وعلى جانبيه لوحات إعلانية عن ملاعب الجولف، وعن التجمعات السكنية المغلقة، التي بنيت في ظل النظام القديم. حركة المواصلات كثيفة، وسرعان ما وصلنا إلى أطراف ميدان التحرير، حيث يختلط صوت الباعة، مع آلات التنبيه التي تطلقها السيارات. ذهبت خيام الثوار، وتلاشت الحشود المبتهجة، التي ظلت تردد الهتافات طويلا، حيث قال أحدهم: لقد صنعنا جمهورية التحرير.. الآن دعونا نصنع مصر.