توفي في الثامنة وخمس دقائق، من صباح الأربعاء 30 أغسطس 2006، في مستشفى الشرطة بحي العجوزة بوسط القاهرة، هكذا اتفقت الذاكرة الجمعية، على تسجيل وفاة الأديب المصري العظيم نجيب محفوظ، ولعلها ليست مصادفة أن يدون تاريخ وفاة الأديب، بصرامة نظامه ودقته الذي وضعه لحياته العملية، بتلك الدقة الشديدة. لكنه، خلف ذلك النظام الصارم الدقيق، يجلس هناك إنسان آخر أكثر صخبًا، فقط عندما ينسل ذلك الأديب إلى طبيعته الإنسانية التي فطره الله عليها، وذلك عندما يتحول الذي يكتب الأدب إلى أدب يرويه غيره، حينها– فقط- يمكنك أن تسمع رنين ضحكته بوضوح في حكايات أصدقائه أو تلامذته الذين عاصروه، سواء كانوا قد رووها شفاهة أو عبر أعمال أدبية وتاريخية مكتوبة. في رواية "هنا القاهرة" الصادرة أخيرًا للكاتب إبراهيم عبد المجيد، يقع بطلاها في مأزق عند محاولتهما الهرب من قبضة الأمن عقب اندلاع انتفاضة الخبز عام 1977، ويتوهان في أزقة وسط المدينة، فيهديهما الحظ إلى فتاة تعبر من بيت لآخر– أمامهما- وهي ترتدي قميص نوم، فتدعوهما للدخول عندها، وعندما يدخل الرجلان منزلها يفاجآن بصور أبطال فيلم "بداية ونهاية"- المأخوذ عن رواية محفوظ- جميعهم معلقة على جدران الصالة التي تتوسطها سيدة عجوز، ثم تميل البنت فتهمس في أذن السيدة فتعلوا البسمة شفتيها في فرح طفلة صغيرة، ثم تحول نظرها إليهما ولا تنفك عن التحديق فيهم باسمةً طوال الجلسة بعد ذلك، وعندما يستفسران عن أمرها، تخبرهما صاحبة القميص إن نجيب محفوظ كان صديقًا لجدتها التي كانت تدير المنزل الذي يجلسون فيه فى البغاء، وقد كتب جميع فصول روايته "بداية ونهاية" على الأريكة التي يجلسون عليها، وعندما نجح الفيلم أهداها نجيب محفوظ خاتمًا ذهبيًا، ثم انقطع عن زيارتها بعد ذلك حتى لم يعد إليها مطلقًا، وعن سبب ابتسامها الآن أن حفيدتها أخبرتها أن الرجلين يعرفان نجيب محفوظ وسيطلبان منه أن يأتي ليزورها قريبًا. يغادر البطلان المنزل وهم يكادان لا يصدقان الحكاية، ولعلها فعلاً غير حقيقية، أو بتفاصيلها بعض خيال المؤلف إبراهيم عبد المجيد، لكنها بكل ما تحتويه من صدق أو كذب تمثل الفارق بين التاريخ الرسمي للأديب والتاريخ الأدبي للإنسان نجيب محفوظ. وإننا نقدم في السطور التالية، بعضًا من شذرات سيرته الذاتية، التي دونها الناقد "إبراهيم عبد العزيز" في كتابه "أنا نجيب محفوظ"، والتي جمعها "عبد العزيز" من حوارات محفوظ وأحاديثه الصحفية والحميمية بين أصدقائه، والتي وإن كانت قد خضعت لرقابته الذاتية إلا أنه من المؤكد، أن القليل منها قد استطاع الفكاك من تلك السطوة الرقابية. يقول نجيب محفوظ في مذكراته: "في البداية عندما كنت أكتب، كان يطلع لي عفريت يقول لي: ماجدوى ما تفعله؟ لماذا تغلق الغرفة عليك؟ ماهذا النظام الصارم؟ ياراجل انزل هيص لك شوية! لكني كنت أصرف هذا العفريت في النهاية، وأفرض على نفسي مزيدًا من صرامة النظام". ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر عام 1911، وكان مفتونًا بالسينما منذ بواكير طفولته، ويحكي أنه عندما كان يشاهد فيلمًا، كانت تظل أفكاره "تطرق رأسي حتى تخرج لحيز التنفيذ"، وحدث ذات مرة أن شاهد فيلمًا به مشهد للطبيب يعاين أحد المرضى، فنادى على خادمته.. "وأخذتها إلى المطبخ، وأفهمتها أنها مريضة، ووقف أخي ليمثل دور ولدها، وبعد الكشف على المريضة قلت لها: يلزمك عملية جراحية، وأمرتها بالاستلقاء فوق "ترابيزة المطبخ" وأمسكت بالسكين، وأخذت أشرط بها في جسد الفتاة، ونسيت نفسي، ووجدت الدم يسيل منها، صرخ أخي وصرخت الخادمة، وكان يومًا لا ينسى"! كذلك جبل نجيب محفوظ– منذ صغره أيضًا- على حب كرة القدم، حيث زاولها لعشرة أعوام في أثناء دراسته الابتدائية والثانوية ولم يأخذه منها سوى الأدب، حتى بات معروفًا بين أقرانه بلقب "أبو الروس" لأن رأسه لم تكن تخيب المرمى، وعن ذلك يقول: "كنت لاعبًا حريفًا كما يقولون، ولو كنت مستمرًا في هذا لكنت لاعبًا مشهورًا في أحد النوادي الكبرى، انتمائي للزمالك انتماء تاريخي، حيث بدأت علاقتي به منذ كان اسمه "نادي المختلط"، مع انتقال حسين حجازي له، فقد تمنيت فعلاً أن أكون ابنًا لحسين حجازي، أسطورة كرة القدم المصرية، وعندما كنت أتدرب على الكتابة، كانت شخصيات أولى رواياتي– التي لم تنشر كلها- عن لاعبي كرة القدم. أراها رياضة ومتعة وفرصة للتفكير والصحة والعافية". كذلك لم تقف موهبة نجيب محفوظ عند حد الكتابة أو الكرة، بل امتدت كذلك إلى الغناء، فقد كان محبًا للموسيقى بشكل كبير، وقد ظل يغني– كما كان يحلو له تسميتها- "أغاني الطفولة" حتى وافته المنية، ويقول في ذلك: "عندما أقرأ لا أقرأ بصوت عال وإنما همسًا، أي أنني غير معتاد على العمل باستخدام الصوت، صوتي لم استخدمه إلا في الغناء، كنت أغني الأغاني القديمة، وأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، وكان لي سميعة وصوت مقبول، وكان أصدقائي يطلبون إلي أن أغني فأجيب، ولو لم أكن كاتبًا لأصبحت مغنيًا ولكن من حظ "عبد الوهاب" أني أصبحت كاتبًا". حين التحق نجيب محفوظ بجامعة القاهرة عام 1930، ليدرس الفلسفة، مر بفترة تشبع بالقراءات الفلسفية، مع اطلاعات محدودة في الأدب، ورغم ذلك كانت تستهويه الكتابات الأدبية، لكنه كان يعاني في نشر قصصه في مجلات الجامعة، لأن المقال كان أسبق في الظهور وأسرع في النشر كذلك عن القصص، وكانت أولى مقالاته التي نشرها عن "تطور الظاهرات الاجتماعية"، وهو المقال الذي يؤكد أنه سعد بنشره أكثر من سعادته بفوزه بجائزة نوبل، وقد كانت لمحفوظ حيل عديدة يسلكها للإسراع بنشر مقالاته أو- على الأقل- ضمان نشرها وإن تأخرت، يقول: "كنت في صباي حريصًا على الكتابة إلى محرري الأبواب الثابتة في الصحف، إما مؤيدًا لأرائهم لينشروا اسمي، أو مخالفًا لرأيهم لينشروا اسمي أيضًا ولو مقرونًا بالسباب". وبالحديث عن نوبل، فمن المعروف أن نجيب محفوظ نفسه لم يكن يصدق أن سيفوز بتلك الدورة في عام 1988 من الجائزة، ذلك وإن كان قد تكرر اسمه مرات عديدة في لائحتها القصيرة، حيث كان يعتبر تلك الخطوة عندما تحدث– تضمن القائمة القصيرة لاسمه- ليست مكافأة أو تكريمًا له عن أعماله الأدبية، وهو ما جعله يسخر من زوجته عندما أيقظته من نومه في عصر الخميس 13 أكتوبر 1988، لتخبره أنهم اتصلوا به لينبئوه عن فوزه بالجائزة، حيث لم يكن يعرف أنه مرشحًا في تلك الدورة أصلاً، يقول: "جائزة نوبل لم تكن متوقعة، وقد ظللت أقول لزوجتي التي أخبرتني بنبأها أن تكف عن المزاح، وفجأة رن الهاتف وكان المتحدث هو محمد باشا مدير تحرير الأهرام، الذي بادرني بالتهنئة: مبروك عليك الجائزة، جلست ما بين مصدق ومكذب، فهل فزت حقًا بجائزة نوبل؟ وقبل أن ألتقط أنفاسي رن جرس الباب. فتح باب المنزل، ودخل خواجة ضخم وزوجته، فقلت له: من أنت، فقال: أنا سفير السويد. عندئذ أدركت أنها حقيقة، جاءوا ليقدموا لي هدية عبارة عن قدح فاخر من البللور السويدي، ولكني لا أعرف فعلاً كيف قابلت السفير السويدي بالبيجامة، ثم أنا كنت واكل بصل.. لأنك يا "توفيق"– يقصد توفيق الحكيم- فهمتني إنه بينزل السكر، يعني كان ضروري في أسبوع جائزة نوبل تقول هذه النصيحة!" زوجة نجيب محفوظ، هي "عطية الله إبراهيم"، التي التقاها عند أحد أصدقائها، والتي يدين لها بكل الفضل عما وصل إليه من نجاح، لكن زواجه منها قد تأخر كثيرًا حتى سن الأربعين، بل إنه قد أخفى ذلك الزواج عن أمه لأنه كان دائم الرفض لفكرة الزواج طيلة العشرين عامًا السابقة على لقائه بعطية، كما أنه تزوج تحديدًا في الأسبوع التي كانت تنشغل فيه أمه بالترتيب لزواجه من إحدى قريباته الثريات، لكن ذلك لا يعني أن نجيب محفوظ قد قضى شبابه بعيدًا عن الحب، إذ كان "حبيب" من الدرجة الأول كما يصف نفسه، يقول في مذكراته :"كتبت الكثير من أعمالي تحت تأثير حالة حب، ليس من الضروري وأنا أعيش التجربة، لكن بعد مرورها"... " الحب يسعد لا يشقى، لكنني لم أسعد بحبي، كنت مهما تعذبت وتلوعت أضبط أعصابي- فقط كنت أهرب من البلد كلها، أسافر بعيدًا، أغير الجو كله، وكان المكان الذي يهدئ من شدة عواطفي هو الإسكندرية كلهم كانوا بيض، وشعرهم بين الذهبي وعسلي، وعيونهم كانت سودًا– أصلي أحب العيون السودا، فعلا والله– أحلى عيون في رأيي هي السوداء الكحيلة، وقعت في الحب ولم يشفني منه إلا قصائد طويلة كتبتها في الغزل العفيف". رحم الله، أديبنا العاشق، المحب الذي كان رغم قانونه الحياتي الصارم، مخاويًا للعفاريت، التي تسوقه بين الفينة والأخرى إلى ضحكة أو لذة عابرة أو أصيلة، كانت هي الأساس التي تطلق أعماله التي عرفها قراؤه جميعهم.