عندما تبحر في روايات نجيب محفوظ وحياته تجد أنك في حيرة شديدة من أمر هذا الكاتب ،فرغم تربيته علي يد والدته التي بعثت في روحه الثقافة وحب الكتب رغم كونها أمية ،إلا أنه قدم المرأة في أعماله الروائية إما سلبية ومستسلمة لحياتها - كشخصية "أمينة" في الثلاثية وشخصية "نوال" الفتاة الهادئة المستسلمة في رواية خان الخليلي - أو هي فتاة سيئة الأخلاق دفعتها حياتها الفقيرة وظروفها والمجتمع كي تسلك سلوكاً غير سوي كشخصية "نفيسة" في فيلم بداية ونهاية وشخصية "إحسان شحاتة" في فيلم القاهرة الجديدة أو القاهرة 30 وشخصية "حميدة" في فيلم زقاق المدق وقد علق بعض النقاد علي ظهور هذا النمط في روايات محفوظ بأنه كان يعبر ويسخر من المجتمع إنذاك ، وأنه اختار تقديم الشخصيات النسائية بهذا الشكل ليوضح تلك الفترة التاريخية التي كانت تعيش فيها المرأة وتجسيد الفترة الصعبة التي كان يمر بها المجتمع حتي تطور وضعها في إطار الحركة الاجتماعية التي وصلت إليها مصر ك شخصية "رباب" البنت المتعلمة الموظفة في رواية السراب وسمارة الصحفية في فيلم "ثرثرة فوق النيل" . لكن تظل أغلب نساء رواياته في شكل "المرأة سيئة الأخلاق" ،فهل نزواته قبل الزواج هي التي دفعته لتقديم المرأة في هذا الشكل أم لأنه لم يجد الحب قبل الزواج ،ففي حياة محفوظ قد شكلت المرأة المستسلمة والمرأة سيئة الأخلاق جزءاً أساسياً من حياته وكانت من أهم المؤثرات التي ساهمت في تشكيل أدبه ولهذا نعرض لأهم الشخصيات النسائية في حياة نجيب محفوظ الذي نحتفي بذكري وفاته في تلك الأيام . والدته صاحبة الفضل في تثقيفه تأتي والدة محفوظ "فاطمة" أول من ترك بصمة في حياته علي الرغم من أميتها ، فكانت حريصة جداً علي تزويده بالكتب ليقرأ ويتعلم ، وكانت تصحبه إلي المكتبات والمتاحف الإسلامية والمسيحية ، فكانت إمرأة متفتحة ومنفتحة ، وكان محفوظ مرتبط بها جداً ، ويصف نجيب والدته بأنها: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزناً للثقافة الشعبية .. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب ان والدتي أيضاً كانت دائمة التردد علي المتحف المصري ،وتحب قضاء أغلب الوقت في حجرة المومياوات ،ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير "مار جرجس" وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين ومارجرجس كانت تقول في نفس الوقت "كلهم بركة" وتعتبرهم "سلسلة واحدة". الحب ونزوات محفوظ بدأت علاقة محفوظ بالمرأة في سن مبكرة فكان متاحاً أن يلعب مع الصبيان والبنات في حي الجمالية في شهر رمضان ،وبعد انتقاله لحي العباسية نشأت أول قصة حب حقيقية عندما احب فتاة كان يطل بيتها علي المكان الذي يلعب فيه محفوظ كرة القدم مع اصدقائه ،و كان عمره في ذلك الوقت الثالثة عشر، أما هي فكانت في العشرين ، وقد احبها حباً جماً ولكنه لم يجرؤ علي محادثتها أو حتي لفت انتباهها ، وقد صدم بعد ذلك عندما علم بزواجها . وكانت حياة صاحب الثلاثية قبل زواجه حياة طائشة وكانت له نزواته ،وكان ينظر للمرأة نظرة دونية ، بدون عواطف ولا مشاعر واحياناً يشوبها شيئاً من الاحترام، ولكنها اخذت في الاعتدال عندما فكر في الاستقرار والزواج وقابل زوجته عطية الله التي غيرت بعض مفاهيمه عن المرأة. وكانت له قصة غرام طريفة ، فعندما انتقل للسكن في حي العباسية كانت تسكن أمامه فتاة شديدة الجمال ، سقط في هواها وظل يشاغلها من نافذة منزله دون أن ترد عليه ولو بإشارة وظل على هذه الحال لشهور طويلة حتى كانت المفاجأة الكبيرة ، عندما اكتشف عن طريق الصدفة أن تلك الفتاة كفيفة ولم تكن ترى إشاراته وتلميحاته . زواجه "الزواج يجيء أحياناً بلا تلميح كالموت "تلك العبارة التي قالها محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل التي قد يمكن أن تكون معبرة عن زواجه ، فكان زواجه من السيدة "عطية الله" زواجاً عملياً والذي يؤكده محفوظ في الكتاب الذي أعده الناقد رجاء النقاش"نجيب محفوظ ..صفحات في مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته" قائلاً "اخترت الزوجة المناسبة لظروفي، ولم تنشأ بيننا قصة حب سابقة علي الزواج ، كنت في حاجة إلي زوجة توفر لي ظروفاً مريحة تساعدني علي الكتابة ولا تنغص حياتي ، زوجة تفهم أنني لست كائناً اجتماعياً ، ولا أحب أن أزور أحداً أو يزورني أحد ، وأنني وهبت حياتي كلها للأدب ". وثمة مفارقة غريبة بين محفوظ عميد الأدب العربي المثقف الحائز علي جائزة نوبل ، ومحفوظ الرجل الشرقي الذي عزل زوجته عن حياته الأدبية ولم يجعلها تشاركه أو يشاروها في أعماله الأدبية ،لكنها اهتمت بتوفير الجو المناسب الذي جعله يتفرغ للكتابة والقراءة ، حتي أن أخوات أديب نوبل عندما كانوا يقومون بزيارته المعتادة ، كانت عطية الله تستقبلهم وتجلس معهم وتتركه وشأنه حتي لايضيع وقته ، ورغم هذا فلم يكن مشغولاً عن زوجته وابنتيه علي الدوام ، فكانا يجلسان سوياً لسماع الإذاعة والتليفزيون ، وخصصا يوماً في الأسبوع للخروج والتنزه مع ابنتيهما "فاطمة وأم كلثوم". وثمة تعجب أخر فقد تزوج نجيب بعد ثورة 1952،ولكنه اخفي خبر زواجه عمن حوله لعشر سنوات متعللاً بانشغاله برعاية والدته وأخته الأرملة وأطفالها ، ولم يعرف عن زواجه إلا بعد عشر سنوات من حدوثه عندما تشاجرت إحدي ابنتيه أم كلثوم وفاطمة مع زميلة لها في المدرسة ، وعرف الأمر الشاعر صلاح جاهين ،وانتشر الخبر بين المعارف والأصدقاء. وقد عزل بناته عن هذا الوسط الثقافي أيضاً ، فقد ظهروا عندما تسلم نجيب محفوظ جائزة نوبل . وفي النهاية ثمة حيرة تدور في مخيلاتنا عن أديب "الثلاثية" ونسائه .