شراسة المفكر والشاعر والمترجم العراقي، المقيم في باريس، عبد القادر الجنابي هي "نصل عطش الصدق". وشعره، بتعبير اللبناني أنسي الحاج، هو "ليل البدر مغسولاً بالعواصف". هو كاتب بدرجة مستقل، وقع عقدًا دائمًا مع التمرد على الجمود والسكونية في وطنه وفي مجتمعاتنا العربية، رافضًا أن يكون منحازًا إلى سلطة، أو منقادًا إلى أي نظام. ولد عبد القادر الجنابي في بغداد عام 1944، وبدأ حياته الأدبية في عراق الستينيات عبر ترجماته للشعراء الزنوج (عن الإنجليزية). ثم توجه إلى لندن عام 1970، ومنها إلى باريس عام 1972، ليؤسس بعد عام واحد من إقامته بفرنسا أول مجلة سوريالية عربية. وتتوالى أعماله الشعرية والفكرية ومترجماته، ومنها: "في هواء اللغة الطلق"، "ثمة موتى يجب قتلهم"، "مصرع الوضوح"، "الأفعى بلا رأس ولا ذيل: أنطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية"، "رسالة مفتوحة إلى أدونيس في الصّوفية والسوريالية ومدارس أدبية أخرى"، وغيرها. حول حاضر المشهد العربي، ومستقبله، وتحديات الثقافة العربية في أعقاب الثورات، وقضايا اللغة والترجمة والإبداع، والعلاقة المتبادلة مع الآخر الغربي، وحقيقة رؤيته لتجربة الشاعر والمفكر السوري أدونيس، دار هذا الحوار مع عبد القادر الجنابي.. = في مرحلة توصف بأنها مرحلة التحديات، في أعقاب ثورات يختلف البعض على نجاحها أو إخفاقها، كيف ترى حاضر الثقافة العربية ومستقبلها، وأنت واحد من صناعها؟ * أولاً أنا لم ولا ولن أمثل أية ثقافة، كنت وسأبقى دومًا على الهامش، وذلك بسبب اختياري الوضوح في النقد ضد الأوضاع العربية. والبرهان أني أصدرت عشرات الكتب والكراريس والمجلات، كلها بقيت وكأنها لم تنشر لصعوبة تحمل لغتها وتشخيصاتها للظلامية الدينية والاستبداد السياسي، وتواطؤ المثقفين العرب. أما مستقبل هذه الثقافة، فليس لدي إلا جواب واحد: بما أن العرب فوتوا فرصة الانخراط في ثقافة الكون برفضهم ما كان يصر عليه طه حسين "قبول الثقافة الغربية برمتها أي بجانبيها السليم والسيئ"، فإن "ثقافتنا" هذه ستبقى دائمًا وسط آمال، وليس وسط المساهمة والابتكار. وسنبقى ندفع ثمن هذه الفرصة المفوّتة. ورغم الربيع العربي الذي أحيا آمالاً تنتظر من يحققها، فإن حاضرنا لا يزال يعيش منعدم الرؤية تحت سطوة اضطراب سياسي وقرارات جيو سياسية. = إذا كنت ترى أن ثمة "إضافة"، فماذا أضافت "الثقافة" إلى الثورات العربية؟ وماذا أضافت "الثورات" إلى الثقافة؟ * بالضبط ماذا يمكن أن تضيف "هذه الشبه ثقافة" العربية، إلى تحرك اجتماعي انفجر فجأة، غير دور الفرجة أو الالتحاق بالشعارات على حساب أي شيء أصيل فيها. ليست هناك أية إضافة من قبل القوامين على ما يسمى بالحداثة العربية، فلا علاقة لهم بالمصطلح سوى الادعاء والزيف. قبل خمسين عامًا، أي قبل ظهور ما يسمى "الحداثة العربية"، كان وضعنا الثقافي أكثر طبيعية، وكان مليئًا بأحلام ملموسة للإتيان بشيء جديد يُضاف إلى مخزون الثقافة العالمي. كان حتى العوام الأميون أكثر فهمًا ووعيًا ورغبة في حياة اجتماعية مدنية حرة، من جل المتعلمين اليوم. كما أن خواء الثقافة العربية المعاصرة يمكن تبينها من خلال تعامل العواصم العالمية معها. فالثقافة العربية في هذه العواصم تُقدَّم من خلال القدماء. وهذا يعني أنّ السلف أكثر أهمية من الأحفاد المنتشرين كديدان جائعة. لا تزال الثقافة العربية المعاصرة تسوّق نفسها من خلال أعمال الماضي الغابر وليس من خلال ما تنتج من أعمال. يا تُرى هل لشبه الثقافة هذه نتاج ثقافي مميز كالثقافة الفرنسية، الأمريكية، الألمانية، تهرع إليها شبيبتهم، كما نهرع إلى ادورنو، بروتون، دريدا؟ = من أين تنبع جمالية الكلمة؟ وهل ترى أن أمانة الكلمة عظمت أم اضمحلت؟ * "جمالية الكلمة تنبع من كونها قذيفة خارقة الدروع الأيديولوجية. إنها رؤيا القطيعة الجذرية مع العالم القديم. جذرية لأن الكلمات تمارس، حتى في ظل الظلاميين، حقها في التجوال بحرية عبر الأسلاك والورود والأصفاد المضطربة. أكتب إذ إن الكلمة مروعة بازدرائها لأي متنصل عنها للحفاظ على طمأنينة عيشه. الكلمة دائمًا في موقع هجوم". هذا ما كتبته عام 1975 في "الرغبة الإباحية". = في لقاء سابق مع الراحل نجيب محفوظ، سألتُهُ عن أهم حلم ثقافي يشغله أو يتمناه، فقال بالحرف الواحد: "إنشاء مؤسسة عربية كبرى للترجمة". هل توافقه في الرأي؟ وكيف ترى حال وواقع وآليات إدارة حركة الترجمة، من وإلى العربية؟ * حلم نجيب محفوظ تنويري. كلنا كنا نفكر قبل خمسين عامًا في مشروع كهذا. لكن اليوم، تحقق جزئيًّا هذا المشروع، فهناك الآلاف من الكتب المترجمة. أما إذا كانت ترجمة جيدة أي على الأقل بلا أغلاط شنيعة، فهذا أمر يحتاج إلى مقال، وسأنشره قريبًا. ففي نظري، القارئ العربي يقرأ تراجم مغلوطة وبالتالي يفكر بالغلط. وأستطيع أن أبرهن أن 98 بالمائة مما يُترجَم، يجب أن يُرمى في أقرب مزبلة بسبب الأغلاط المشينة وانعدام فهم النص المُتَرجَم.. ناهيك عن أن معظم مشاريع الترجمة التي انهالت علينا خلال السنوات الأخيرة، هي مشاريع مشهدية هدفها الادعاء وليس رغبة التثقيف الحقيقي الذي قد يهدد الأوضاع السائدة. لكن حتى لو كانت الترجمة صحيحة وبكمية هائلة، فالتأثير لن يكون كثيرًا، ذلك لأن الترجمة لا تخلق مبدعين، ربما تفتح عيون بعض الكتاب الشباب، لكن لا تخلق منهم مبدعين. فماركيز لم يكتب رائعته "مائة عام من العزلة" أو أوكتافيو باث أعماله الشعرية، لأن مشروع ترجمة كبير تم في أمريكا اللاتينية. والشيء المخيف في أمر الترجمة العربية، أنه كان لدينا ترجمات عربية نظيفة لأعمال كبيرة، اختفت وحلّت محلها تراجم معادة سيئة جدًّا. نحن اليوم لا نملك ترجمة مقبولة ومتفق عليها لأعمال ماركس. ما كان يهم جابر عصفور في مشروع الترجمة هو "كم" وليس نوعًا. فبدل أن ينشر مائة كتاب بترجمة سيئة ومغلوطة، كان عليه أن يكتفي بترجمة عشرة كتب بترجمة دقيقة وتدل على جهد وفهم واضحين. إن المشاريع الثقافية اليوم تنطلق من فهم خاطئ للثقافة: فهي تتصور أن الأموال تخلق ثقافة، بينما العكس هو الصحيح: الثقافة هي التي تخلق الأموال. = عن أدونيس تقول في مقال لك "المشين في أدونيس هو هذا الهوس والقناعة الذاتية بأنه (الشاعر/النبوءة)". حدثنا عن طبيعة رؤيتك لتجربة أدونيس كشاعر ومنظر وباحث في مجال السوريالية والصوفية، وهل تنبني رؤيتك النقدية في هذا كله على اعتبارات فنية مجردة، أم أيضًا على خلاف معه في النظر إلى الثورات العربية، إذ ربما يبدو هو متحفظًا عليها أو معاديًا لها؟ * يقول كارل كراوس: "القصيدة تبقى جيدة حتى نعرف من كتبها". لم أجد شاعرًا تصح عليه مقولة كراوس هذه كأدونيس. فأدونيس، شعريًّا، كلاسيكي المقاربة، لكنه شيطان يعرف كيف يخلق من صغار الشعراء عبيدًا له في كل زاوية وجريدة ليفرضوه كإله الحداثة. ليس له ديوان واحد يقف بصلابة ويصمد مثل ديوان "لن" لأنسي الحاج دلالة على حداثة تمت من خلال قطيعة حقيقية مع ذهنية الماضي. لذلك هو أقرب إلى العوام، بينما أنسي الحاج لا يقترب منه إلا الشعراء. إنه شاعر حديث فقط لأنه حي، وعلينا تحمّل ما تلفظ قريحته، وقلّما تجد تأثيرًا له على تجربة قصيدة النثر العربية. بينما يكاد يكون تأثير أنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وشوقي أبو شقرا، التأثيرَ الأوحد على هذه القصيدة. والبرهان، هو أن أدونيس نفسه لم يستطع تسويق نفسه في أوروبا كشاعر، وإنما عبر الأكاذيب والادعاءات بأنه مضطهد، ومدافع عن الثقافة الغربية، وملحد، وعلماني، ومضاد للإسلام، بل إلى حد الادعاء المضحك أنه شاعر كوني. قلما تجد ناقدا فرنسيا يتكلم عن شعره، دون أن يبدأ أولا بهذه النعوت، ويكتفي بعدها بجملة عن شعره. وحتى تعرف إلى أي مدى يوزع انطباعات كاذبة عن نفسه عند الفرنسيين. هاك، مثلا، ما يقوله صديقه آلان جوفروا الذي لا يفقه حرفا واحدا بالعربية، عن أدونيس في إذاعة فرنسية: "أدونيس عمل باللغة العربية ما عمله جويس بالإنجليزية". أما أخلاقيا، وعلى الصعيد العربي، فهو يلعب على الحبلين، فمثلا قبل سنوات أدلى بالشهادتين، إثر طلب من حاضرين سلفيين، وبعد أسبوع نقض كلمته هذه، بإعلانه في عدد من جريدة سويدية (انتبه: جريدة سويدية)، بأنه وثني. في ليلة صعود الخميني، هذا المسئول الأول في إشاعة التكفير والظلامية، كتب أدونيس قصيدة يحيي ثورة مدينة قم، ويشتم الغرب بأقذع السباب العنصري، لا يمكن أن يكتبه شاعر مهما كان قوميًّا: "شعب إيران يكتب للغرب: وجهك يا غرب ينهار/ وجهك يا غرب مات/ شعب إيران شرق تأصل في أرضنا، ونبيّ/ إنه رفضنا المؤسس، ميثاقنا العربي"، هل يختلف هذا الكلام عن أي بند من بنود الظلاميين؟ وهو يدعي اليوم بأنه يدافع عن حقوق المرأة، وهو الذي ظل ساكتا حول هذا الموضوع طوال حياته، بل دافع في مقدمته لمختارات من كتابات محمد بن عبد الوهاب عام 1980، عن رأي هذا المتشدد الوهابي ضد المرأة. شتم سلمان رشدي في اليوم الأول من صدور الفتوى ضده آخذا عليه اعتداءه على الرسول، وبعد سنوات طويلة عندما طغت موجة الدفاع عن رشدي، صرح في إذاعة فرنسية بأنه وقف ضد رشدي "لأنه لم يكن كافرا بما في الكفاية". هذا التقلب المرفق بالكذب، لا يمكن أن يكون من خصال شاعر يحترم الكلمة، الإبداع. باوند لم يتقلب وإنما بقي حتى نهاية حياته مؤمنا أن الربا أكبر جريمة بحق الشعوب. كما أن أدونيس، في اللحظة التي شعر فيها بأن نظام طائفته مهدد بالسقوط من قبل مظاهرة أطفال سوريين، انتفض وراح يغطي مشاعره الطائفية المتأججة، بحجج واهية أنه ضد التيارات الدينية وأنه علماني، بينما لم يكن هناك شعار واحد ديني في الأيام الأولى لهذه الثورة، كما أنه لم يدن إلى اليوم بشار الأسد. بل وزع معلومات خاطئة في الإعلام الفرنسي، لطمأنة أصدقاء فرنسيين، أنه طلب من بشار الأسد الاستقالة، وليس هناك نص عربي واحد يبرهن على هذا. بعض الأغبياء يغفرون لأدونيس بحجة أنه شاعر كبير. وأنا أقول ربما فعلا أدونيس شاعر كبير عند العرب، لكن بكل تأكيد إنه إنسان صغير، أينما حلّ. وهذا ليس بشاعر في قاموسي. = هل يروق لك تعبير "الظلاميون" الذي يطلق على بعض التيارات المتشددة؟ وهل هم ظلاميون فعلا؟ حدثنا عن ذلك، في ظل ما قد تتعرض إليه شخصيًّا من جراء قصورهم في فهم الإبداع.. * نعم ظلاميون وخفافيش ويجب عزلهم كأي عدوى، وإبعادهم عن الجو الثقافي وإلا فإنهم سيسممونه. ويجب أن يعمل المثقفون الأحرار على استئصال ذهنية التذنيب والتكفير التي استطاع هؤلاء الظلاميون ترسيخها في عقل المجتمع. غياب هؤلاء علامة صحية على أن المجتمع متطور مدنيًّا ويكفل حرية كل الآراء. = الواقع غذاء الفن الأصيل، لكن هل تفسد الأحداث الطاغية ذلك الفن أحيانًا؟ وما رأيك فيمن يحاولون إيجاد دور شعري لهم من خلال عملهم كنشطاء وخطباء سياسيين بالأساس؟ * أن يكون الفنان، الشاعر، الروائي، صريحًا أي مبدعًا، لا يعني بتاتا، أنه يمكّن الوعي الزائف (أي الأيديولوجي) من التغلب على رؤاه الفنية والشعرية. ولا يعني أيضًا أن يبتدع طموحاته على شكل قصيدة مباشرة (أي كمنشور سياسي) حيث بؤس الشعر يتجسد. كلا. إنما عليه أن لا يتورّع عن إظهار احتقاره وسخطه لكل جرائم النظام الاجتماعية والثقافية. هنا يكمن معنى الصراحة، أن يعاقر الشاعر مخيلته، ولا ينجم عن ذلك أن الشاعر يرغب في جعل الشعر في خدمة عمل سياسي ولو كان ثوريا، لأنه يناضل في كل ميدان، ميدان الشعر بوسائل خاصة بالشعر، وفي ميدان العمل الاجتماعي دون أن يخلط أبدًا ميداني العمل، وإلا أعاد الالتباس الذي ينبغي تبديده، ومن ثم يبطل أن يكون شاعرا، أي ثوريا. هذا كان ويكون ويبقى مبدئي الأول والأخير. = نعيش عصر هيمنة الصورة بكل المقاييس، الصورة الرقمية تحديدًا. إلى أي مدىً تأثر الشعر؟ * نحن نعيش دائمًا تحت سطوة الصورة/ المشهد. الفرق بين الأمس واليوم هو أن الصورة كانت تتحكم فينا جماعيًّا. أما اليوم، فهي أصبحت رقمية وبالتالي أمرًا فرديًّا. فهي تهاجمك في كل لحظة عبر هذه الأداة المسماة "إنترنت". أصبحت جزءًا من حياتك اليومية حتى في أشد لحظات العزلة. الشعر يتأثر ولا يتأثر. الشعر عانى كل ما فرضه التطور التاريخي، ومع هذا بقي صلبًا يتحدى أية محاولة لإخضاعه. والبرهان أن الشعر اليوم هو أقوى مما كان في الأمس. الشعر هو السفر الداخلي للكائن، وما دامت هناك كلمات، هناك تجاور يولد فيه الشعر. لكن في كل حقبة، يجب على الشاعر أن يتحرر من أنماط الماضي. نحن مثلاً في هذه الحقبة الأثيرية، الرقمية، علينا أن نفهم إن الكِتاب يحتاج إلى كتّاب جدد، لأن المداد والقرطاس بالَ عليهما الدهرُ وشَرِب، كتّاب يحولون هذه الماكينة الرقمية في اتجاهات أكثر ابداعا وإصالة. = قصيدة النثر".. هل تراها في طفولتها المتأخرة، أم شبابها، أم كهولتها؟ وماذا يحتاج إليه الشعر كي يسترد عافيته، ويعود "خبز المائدة"؟ * قصيدة النثر العربية هي الآن في ربيعها الثوري. حبلى بإمكانيات إبداعية لم نعرفها من قبل. وأستطيع أن أقول إنّ ذاك الذي يطلق على نفسه "أكبر شاعر عربي حيّ"، يعيش على مخاض قصيدة النثر العربية وينتحل رؤاها، وعليك أن تقارن بين ما كان يكتبه في أوج شهرته، وما يكتبه اليوم رغم شيخوخته. والمشكلة هنا هي، أيضًا، بسبب غياب ناقد مسلّح ثقافيًّا بما في كفاية القدرة على التمحيص والمقارنة والإثبات. الشعر لا يحتاج إلى شيء، فهو دائما موجود، أحيانا بزي متنكر.