«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار النخبة مع فائز الحداد الحلقة الأولى

الحلقة الأولى : وفيها يجيب الشاعر فائز الحداد على أسئلة أ. د. إنعام الهاشمي - الولايات المتحدة الأمريكية ( تجد في نهاية الحلقة نبذة موجزة للتعريف بها)
أ. د. إنعام الهاشمي – الولايات المتحدة : تحيتي وتقديري للشاعر المتفرد العرّاب الفائز الحداد...
حين شدَّ انتباهِي تفرُّدَ ما تكتبُه وجدتُه لأولِ وهلةٍ مدهشاً ومتحدِّياً لمدارِك القارئِ البسيطِ ولثقافةِ من يعتبرُ نفسَه مثقفاً.. ووجدتُ مدارِكي تقفُ على بوّابَةِ شِعرِكَ متسائلةً تارةً ومتطاوِلةً بعنقِها لاستِطلاع ِما وراءَ الحاجِزِ بينِ ثقافَتي وثقافتِك، وقلتُ في نفسِي الشاعِرُ هذا لا يرمِي الكلامَ جِزافاً، فوراءَ كلِّ كلمةِ يكتبُها معنىً يستندُ إلى قاعدةٍ معرفيَّةٍ واسِعة؛ وقد صَدقَ حدَسِي ووجَدتُ أنَّك موسوعةٌ فكرِيَّةٌ وأدبيَّةٌ تفيضُ معرِفَةً. فهنيئاُ لنا بك، ومن خلالِ حوارِ النخبةِ معكَ سوفَ تُتاحُ لنا الفرصةَ لننهلَ من ينبوعِ معرفتِكَ كما نَهلنا من ينبوعِ شاعِريَّتِكَ وشِعرِك فارتَوَينا وما ارتوَينا وما زلنا نطلبُ المزيد.
يسعدنِي أنأ أستهلَّ الحوارَ في أولى حلقاتِه ببعضٍ من أسئلتِي، على أن أعود فيما بعد في حلقات قادمة مع أسئلتي المؤجلة وللإجابة على بعض الأسئلة التي وجهت لي ضِمنَ أسئلةِ النخبة؛ فتقبل مني كل الشكر و الوِدِِّ والتقدير .
في تعليق على إحدى قصائد الثلاثية المقدسة كتب شقيقك المهندس فؤاد الحداد عنك ما يلي:
(لقد كنت متابعاً لفائز منذ صغرنا لما يصنعه من آلات موسيقية كي يعزف عليها ويغني ومتابعاً لما يكتبه .. فهذا الشيخ الشاب الذي تجاوز منتصف الخمسين كان لا يرضى على شيء إلا الذي يراه شعرا ولم يعجب بأحد إلا باثنين المتنبي وشاكر السماوي الذي يحب كتابات فائز من شبابه .
فائز واجه اعتراضا كبيرا لما يكتبه من قبل أبي الذي منعه من الشعر كثيرا وأراده أن يكون طريقه من وإلى الجامع كما تربينا نحن .
وفرح أبي رحمه الله حين أنهى فائز الدراسة في العلوم السياسية وأصبح موظفا في الخارجية والسفارات فيما بعد ..
وحين علم أبي بإصدار فائز دواوينه بعد سنوات طويلة قال ( هذا من هو ازغير يشخبط ومنعته وكبر وما زال يشخبط الظاهر هذا ما اعرف شبيه.. ) ورحل أبي إلى عليين رحمه الله .................................. ...........................
فأنا مهندس مدني وأحب الشعر ولم اقرأ لفائز منذ زمن بعيد وليس معي إلا ديوانه الأول قبعة الأفعى وعاتبته بطلاقه للشعر العمودي رغم انه فحل فيه فقال علينا أن نؤسس لأنفسنا وشخصيتنا الجديدة التي تمثلنا حينها ضحكت على رأيه .. وها هو الآن يتلمس نجاحه في الشعر الحديث ........)
سؤال 1 – أ. د. إنعام الهاشمي : جميلٌ ما كتبه شقيقُكَ عنكَ وبالأخصّ ما قالَه بمحبَّةٍ عالِيةٍ عن شقاوةِ طفولَتِكَ ثم عنادِك وإصرارِك أن تكونَ شاعِراً رغمَ اعتراضِ والدِكَ (رحِمَهُ الله) ، و في ردّي على تعليقِه ذاكَ قلتُ أنَّني سأضيفُ ما قالَه كجزءٍ من سيرَتِك وها أنا أفي بوعدي.
وسؤالي هنا: أيّ نوعٍ من الآلاتِ الموسيقيَّةِ صنعتَها وأنتَ صغير؟ وما هي الموادُّ الأوليةُ التي استعملتَها في صنعِها؟ وهل عوقبتَ بسببِها وأنتَ تعزِفُ عليها كما يحلو لكلِّ الصغار تجريبَ مواهبِهم الموسيقيَّةِ وقتَ القيلولةِ في الظهيرة؟ وإن اخترتَ عدمَ الكشف ِ عن ذلك، فسوف أتركُ الجوابَ لتخميناتِي وتخميناتِ القارئ؛ ولكنِّي أكادُ أجزمُ أنَّ أصواتها أطربتكَ حينذاك، كما ساهمت في تدريبِ الأذنِ الموسيقيَّة ِالتي ظهرت جليَّةً في شِعرِك
جواب 1 – الشاعر فائز الحداد : إن السعي إلى تجسيد الذات في مرحلة الطفولة والصبا ، أعتقد يبدأ في البحث عنها وفيها ..وأجدني كنت أبحث عن فائز العاشق للكلمة والنغم لأجسده من خلال وتر أو كلمة عفوية .. فقد كانت طفولتي مشغوفة بما يحيط بها من مظاهر العزف الصوفي ( التكايا ) والأذكار الدينية بجانب مظاهر الأفراح والدبكات العربية حيث الطبل والمزمار سيدا النوتة التي يرقص ويدبك عليها المحتفلون في بادية الأنبار الجميلة وما يضارع ذلك من ربابات فرق الغجر الحاضرة دوما؛
وما شدني الطبل ولا المزمار ولا دف الدراويش حينها بقدر الربابة ، فرحت باحثا عن أسباب تكوينها فعملت ربابتين الأولى من صفيحة تنكة زيت محرك السيارة الفارغ والثانية من خشب فضلات جاري أبي النجار (عمي حسين الكواكة وجليل الجبوري ) وبعد أن أكملت المهمة احترت بوتري ّ القوس والربابة فكيف أحصل على شعرات ذيل الحصان ؟ فكانت تطير روحي فرحا في مشاهدة الخيول القادمة من الريف إلى الفلوجة مستغلا غفلة أصحابها لأقطع بعض الشعرات وأهرب بها صوب ربابتي التي تنتظر الاكتمال ولم أكثرت بخطورة ما يصدر عن الحصان من رفسه قاتلة وأنا لا أزال طفلا .. فعزفت عليها دون معرفة وبعد حين أدركت أن سر العزف وولادة النغم يكمن في حركة الأصابع اللاعبة على الوتر كأبعاد ورياضيات وما حركة القوس إلا فيزيائية لتوليد الصوت فحسب . بعد ذلك عملت لوحا وثبت عليها أوتارا من خيوط صيد السمك وبما يشبه القانون وكانت الأصوات الصادرة أجمل وأكثر حسا ، ومن هنا نما تعلقي بآلة العود الذي لم أبلغ تعلمه إلا بعد عشرين عام تقريبا فتعلمت العزف عليه في تركيا التي أقمت فيها حوالي خمس سنوات فأتقنته تماما مستفيدا من تعلقي بالمقام العراقي ومعرفتي لبعض أسرار الإنشاد الديني عن أبي رحمه الله .
سؤال 2- أ. د. إنعام الهاشمي : أنتَ كما عرفنا عنكَ عازفُ عودً ماهرِ و لك صوتٌ عذبٌ كما يشهدُ بذلك من استمعَ إليك... وشِعرك يتَّسِمُ بإيقاعاتِه الداخليَّة وأوزانِه حتى وإن تخلّى عن القافية؛ كما أنَّ إدراكََكَ لجرسِ الكلمةِ الشِعرِيَّة ومعرفتِك بالمقاماتِ السمعيَّةِ بدا أثرُهما واضحاً في شِعِرك... فأي الحبيّن كان الأسبقَ إلى قلبِك، حبٌّكَ للموسيقى أم حبُّك للشِعر؟‏
جواب 2– الشاعر فائز الحداد : الموسيقى في الحقيقة هي التي دفعتني إلى حب الشعر والتعلق به قارئا ومن ثم كاتبا له ، لكن الموسيقى لا تزال الأقرب إلى روحي من أي شيء لذلك يرافقني عودي العتيد أينما أحل أو أرحل ، رغم أنني شاعر وأن الشعر هو أبو الآداب والفنون .. وهنا لا بد من تدوين حقيقة تاريخية .. هي أن أول نوته عربية كتبت في زمن الخلافة العباسية كانت على يد العلامة الكبير صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر الأرموي البغدادي (613 ه/1216م - 693ه/1294 وهو أشهر موسيقي عربي وصاحب كتاب ( الأدوار ) والتي وضع أساسها على إيقاع بحور الشعر العربي الستة عشر وقد كان نديما لآخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله . لذلك استفدت كثيرا من تعلمي للموسيقى فأنجزت بحثا بعنوان ( التناغم الإيقاعي بين الشعر والموسيقى ) ألقي في المنبر الثاني للمقام العراقي في تسعينات القرن الماضي وحصلت بسببه على شهادة تقديرية، واختير البحث فيما بعد كبحث متميز من قبل مستشرقة فرنسية أجهل اسمها ويحتفظ به الآن كوثيقة في معهد الدراسات الشرقية التراثية في فرنسا .. هذا ما أخبرني به الباحث والناقد الموسيقي العراقي المعروف يحيى إدريس مؤخرا.
سؤال 3 – أ. د. إنعام الهاشمي : الكثيرُ من شعراءِ العمودِ لا تفوتُهم فرصةٌ إلا وانتقدوا الحداثةَ والمحدِثين، وتهجَّموا على القصيدةِ النثرِيَّةِ بحُجَّةِ أنَّها تسعى إلى تخريبِ اللغةِ وهدمِ أصولِ الشِعرِ بدخولِ العددِ الهائلِ من الكتّابِ في قصيدّةِ النثرِ ممَّن لا يعرِفونَ أصولَ الشِعر، ولكنَّهم هم أنفسَهم يحاولونَ تجريبِ الحداثةِ في شِعرِهم في محاولةٍ للِّحاقِ بركبِ الحداثةِ الذي بدأ يهدِّدُ مراكِزَهم بينَ شعراءِ اليوم.
والسؤال: ما الذي تعيبُه على شُعراءِ العَمودِ في محاولةِ تجريبِهم النثرّ أو القصيدةَ الحداثيةَ عموما؟
.
جواب 3- الشاعر فائز الحداد : أنا لا أعيب يا سيدتي ، بل أدين الجهالة المربكة معرفيا التي وقع بها أغلب شعراء قصيدة العمود الذين ظلوا مأخوذين بتعريف الشعر تعريفا هزيلا قوليا لا معناتيا على أنه: الكلام الموزون المقفى الذي تحكمه عناصر ثلاثة هي الوزن والقافية والروي، وبخلافه عدوا أي جنس بداعي أخر بأنه طارئ على الشعر..أي أنهم أخضعوا الشعر إلى القانون المشروط مسبقا بنظام العروض الخليلي أو ما يماثله في اللغات الأخرى ، وغضوا النظر عن أن الشعر أساسا يترفع عن الجدولة ولا يعترف بقانون قسري أو أي محدد لشروط التعبير ، كونه موجود ونعيشه كل لحظة ككائن حي وتعبر عنه كل مكونات الخلق الحية وبلغاتها الصوتية والحسية والحركية واللونية والتمثيلية والإيمائية أي المجسدة والمصورة الملموسة والمحسوسة وحتى السائلة والصلبة والمتحولة.. الشعر ليس رياضيات لغة ولا مكونات علمية بل هو أبو الأدب بكل فنونه وأساس العلم بكل أجناسه وفروعه، لذلك عبرت عنه كقيمة جمالية واعتبارية بأنه الشرط المثالي في التعبير عن الحرية .. داحضا أي تعريف له لأن الشعر لا يعرف مهما امتد الزمن أو قصر.
لذلك ..
باختصار شديد أقول :
القلة من شعراء قصيدة العمود أجادوا فهما وكتابة للشعر الحر ..والغالبية منهم فشلوا فشلا ذريعاً في تجريبهم له والسبب أنهم تصور كتابته أمرا سهلا فجاءت نصوصهم تسطيحا لغويا يضارع اللغة الصحفية والمقالة أو الخاطرة في أحسن الأحوال والعيب فيهم كعموديين سلفيين تكويننا وثقافة ويجب أن يدركوا بأن ما جاء ملتحقا بقصيدة العمود كشعر التفعيلة إنما هو جزء لا يتجزأ من نظام دائرة العمود ولا يتخطى نظامها وإن أختلف الشكل وتغير الإكسسوار ..وعليهم أن يتركوا هذا التجريب لأنه تخريب في اللغة والشعر معا.
سؤال 4- أ. د. إنعام الهاشمي : من الانتقاداتِ التي تُوجَّهُ لشِعرِ الحداثَةِ، وأنا ضِمنَ من وجَّهوا مثلَ هذا الانتقاد، أنَّ الكثيرَ منه يبتعِدُ عن الغموضِ المحبَّبِ وهذا ما اتَّصَف به مِعظَمُ ما قمتُ بترجُمَتِه من العربيَّةِ للانجليزيَّة ليوغِلَ في تعقيدِه ورمزِيَّتِه حتى يصِلَ ما يمكنُ وصفَه بالهذيانات.
والسؤال هو: أينَ نضع الحدَّ الفاصِلَ بينَ الهذيان من ناحيةٍ والرمزِيَّة الموَجَّهةِ و الغموضِ المحبَّبِ من الناحيةِ الأخرى؟ وهل للنقّادِ دورٌ في تشجيعِ أو الحَدِّ من الهذياناتِ في شِعرِ الحداثة؟
جواب 4 – الشاعر فائز الحداد : أعتقد أن سؤالك يحمل إجابته وأنت قد أجبت على سؤالك في وضعك الفاصلة العازلة كحد بين الهذيان المجرَّد من المعنى والعائم على زبد أللاشيء وبين الرمزية التي يشتغل عليها شعر الحداثة في الصورة المركبة والاستعارة .. والذي يشي إلى فهمك الراسخ في التفريق بين الغث والسمين .
ولكنني هنا للبيان لا أعلق أملا كبيرا على النقاد للحد من ظاهرة الهذيانات ، لأن بعضهم لا يميز بين الهذيان والرمز ولا بين المميز والضعيف ، بل والكثير منهم لا يعي فرقا في ذلك ومنهم من كان مهرجا ويكتب كمؤجر إتباعي مروج لبائر بعض الشعراء وهذا معروف دونما إشارة اسمية، فالذي يريد أن يصير الرمزية هذيانا لقادر على تصوير الهذيان رمزا فهذا الزمن زمن المقالب والتقلبات !؟ .
سؤال 5 – أ. د. إنعام الهاشمي : ومن هنا أنتقلُ إلى سؤالٍ سألتُه في دِراسَتي المعنونة "مع ديوان فائز الحداد _ مدان في مدن" ، وهنا أطرحُه عليكَ وأتمنّى منكَ الإجابةَ عليهِ في ضوءِ تجربتِك الشِعرِيّة الخاصَّة والقصيدةِ الحداثيةِ عموماً.
السؤال هو: هل على الشاعرِ أن يكتبَ ما يفهمُه القارئ؟ أم على القارئ أن يفهمَ ما يكتبُه الشاعر؟ وهل هناكَ نقطةُ وسط ٍبين هذا وذاك؟
جواب 5 – الشاعر فائز الحداد : هناك خلط مفهوماتي خطير نتج عن سؤال خطير هو: لمن يكتب الشاعر للنخبة أم لعامة القراء ؟
قبل كل شيء أقول .. يجب أن يكون خطاب الشاعر ناضجا ومستوفيا لشروط النص
كأمانة وتناص بين الشاعر وما يكتبه . فالنص ( بمثابة جبل تتوزع عليه القراءات بين النخبة والقراء ) ، فإذا كان هناك من رهان للشاعر فيجب أن يكون رهانه على وجود قارئ ناضج ومثقف لا قارئ كسول ينتظر وجبة قرائية سهلة شبيه بأكلات الوجبات السريعة .
النص الشعري الحديث ليس كالشعر العمودي في مباشرته وغنائيته ولا هو كالمقال أو التغطية الصحفية أو التحقيق الإعلامي ولا حتى القصة القصيرة أو ما يشابهها من كتابات السرد .. وعليه يجب أن يرقى القارئ في تقديري إلى مستوى القراءة النموذجية كي يفي قراءة الشاعر في إعادة إنتاج النص قرائيا .. فهو غير مسئول عن محو أمية أحد لا في القراءة ولا في فهم النص أو فتح مغاليقه وأسراره.
سؤال 6 – أ. د. إنعام الهاشمي : وسؤال مفتوح آخرَ أيضا سألتُه في الدراسةِ أودُّ منك الإجابة َعليه: ما الفرقُ بين نصٍّ فلسفيٍّ ونصٍّ أدبيّ؟ وما هي نقطة ُالالتقاء؟ و لنمضِِ أكثر في السؤال، هل يمكن أن يكونَ الهدفُ مشتَركا بين النصِّ الفلسفيِّ والنصِّ الأدبيّ؟
جواب 6 – الشاعر فائز الحداد : الشعر والفلسفة يشتركان في ماهية الفكر وتداعياته ومراميه تداخلا واختلافا وإن كان لكل منهما مزياته ومزاياه .. فأول النصوص التي كتبت كانت شعرا ومنذ زمن تالييس أول فلاسفة الإغريق ، حين تداخل السرد بالشعر والشعر بالملحمة والفلسفة بالحكمة .. فهما أي الشعر والفلسفة معنيان تجسيدا وترسيخا في مسألة ( الفكروالجمال ) و( الخلق والوجود ) وغيرها ، ولكن باعتقادي أن الشعر سبق الفلسفة والفلسفة ذاتها قد كتبت شعرا في باديء الأمر ولنا فيما احتفظ به ارسطو مثالا هاديا كأشعار ( بارمنيدس وهيراقليتس ) وكذلك فعل الكثير من الفلاسفة حين كتبوا فلسفاتهم شعرا ، فأفلاطون ذاته خصَّ الشعراء بمكانه كبيرة في جمهوريته المزعومة وفعل بعده الكثير من الفلاسفة الآخرين.
ولو تساءلنا هنا .. هل أن النص الشعري هو نص فلسفي بالضرورة ؟ أقول نعم إذا كان نصا حداثيا يتناول الفكر من أبوابه الواسعة كمعبّر مثالي عن الحياة .. فالنص الشعري يجب أن يقوم أساسا على الشك صوب يقينيات يتقصدها ولا يبلغ تلك اليقينيات إلا بشك مضارع آخر وهكذا تبقى جدلية الاستمرار مترادفة ومتعاكسة أحيانا .. أليس الشاعر من صيّر الفكر لصالح الجمال ؟ هذا يكفي إذن لفهم طبيعة هذه العلاقة التجادلية المتداخلة بينهما .. ناهيك عن كون الكثير من الشعراء كانوا فلاسفة ومنهم جان جاك روسو ونيتشه وهيغل وميشيل فوكو ومن الشعراء العرب قيل عن المعرّي شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء تعميما لا حصرا.
فهل نعلن هنا بأن الشاعر فيلسوف وأن الشعر فلسفة ؟ .. إلى درجة كبيرة نعم ولكن الشعر الحر في مراميه الفكرية حصرا.
سؤال 7 – أ. د. إنعام الهاشمي : بعضُ من يقفُ ضدَّ التحرُّرِ الشِعري يستعملُ أقوالَ الجيلِ السابقِ من المحدِثين، كأدونيس، للوقوفِ ومعارضَةِ التجديدِ لدى الجيلِ الجديدِ من المحدِثين كأطُرٍ لتحديدِ الانطلاقةِ خارجَ ما كانَ بالأساسِ خروجاً على ما قبلَه، كما أرى البعضَ منهم يتحدَّثُ باسم أدونيس كان يقول مثلاً "لو سَمعَ أدونيس هذا لقالَ أنَّه هراء!" تعليقاً على قصيدةٍ حداثِيَّة!
والسؤال: في رأيك، هل يحُّق لمن عُرفَ بالكلاسيكيَّة أن يتعكَّز على أقوالِ أدونيس أو التحدُّثِ باسمه للوقوفِ بوَجهِ التجديد؟
جواب 7- الشاعر فائز الحداد : لكي أكون واضحا وصريحا ومنصفا فيما يخص منحى هذا السؤال المهم بشطريه الجوازي والاعتباري ومن خلال التنظير والتطبيق والأسباب بأهدافها والنتائج بمدلولاتها أقول :
إن الذرائعية السلفية بمعنى التعكز على أقوال وأسماء الأعلام كشواهد وأمثلة واستخدامها عكس مراميها ولغايات سيئة موجودة دائما ، وهي بالمناسبة جزء من المعايير السياسية في الاستخدام الثقافي ولها رجالها في السلوك غير الشريف وغير النزيه في استخدام كلام حق يراد به باطل، وقد كتب عن مخاطر هذه المسألة الناقد العربي الكبير علي حرب في كتابه ( أوهام النخبة وبيروقراطية المثقف ) ، فهي أحدى أهم العيوب المعروفة في الوسط الثقافي في المحاججة الديماغوغية والتضليل لغرض تخطئة الصحيح وفرض الخطأ والنتيجة الحتمية لذلك هي إبقاء الرديء والمحافظة عليه وإقصاء الحديث والمعاصر من المشهد الثقافي والمشهد الأدبي .. فالعموديون ونقادهم للآسف يشعرون بخطر كبير يهدد منجزهم الذي لا يملكون غيره بعد أن حقق شعراء النص الحديث نجاحاتهم الباهرة في سلم الخط البياني بحيث أصبحت قصيدة الشعر الحر هي الأولى ثم درجتين فارغتين لتأتي قصيدة العمود بعد ذلك في التقييم والقراءة؛ ولتوضيح ذلك أقول أن ترتيب النصوص في سلم الخط البياني هو كالتالي:
( 1. النص الحديث..... 2.فراغ ....3.فراغ .... 4. قصيدة العمود)
فماذا يتوقع المرء غير هذا الهجوم المنكر من قبلهم على المجددين المعاصرين الذين يعتبرون أدونيس قد مثل مرحلة ولن يتوقف الزمن الشعري عنده ، ولكن على غرار المثل القائل ( أحاربك بأدواتك ) يحاربون التجدد والتطور وهم أساسا لا يحترمون أدونيس ولا من كان قبله ولا من جاء بعده . وهنا لا بد من نافلة القول بأن الكبير أدونيس له رأيه الذي نحترمه في الزمن الذي مثله ، ويجب أن يكون لنا رأينا في زمننا الذي نمثله والذي يحترمه أدونيس نفسه ولي ثقة كاملة وقريبة في صحة ما أقول .
وخلاصة للقول .. لا بد من الإشارة إلى أن بعضهم ممن حاول التجريب والتخريب معا لن يستطيع كتابة الشعر الحر إذا نزل به وحي وهنا طامته الكبرى .
سؤال 8 - أ. د. إنعام الهاشمي : أرى أنَّ المحدِثين الذين حملوا رايةَ التجديدِ في الشعرِ في منتصفِ القرنِ الماضي وما قبل لا يمكنُ تسميتَهم إلا بالجيلِ السابق، ولا يمكنُ لحداثةِ نصفَ قَرنٍ مضى أن تُسَمَّى حداثةً اليومَ ما لم تخضَع للتطوُّرِ والتحديثِ المستمِرِّ لمواكَبَةِ العالَم الديناميكي. لا أستطيعُ التكهُّنَ بما يفكِّرُ به أدونيس وغيرُه ممَّن وضعوا أسُسِ الحداثةِ في القرنِ الماضي، ولكنّي لا أستطيعُ تصديقَ أنَّ من خرجَ هو نفسَه على القيودِ التي فُرضت من قِِبَلِِ من سبقوه، يأملُ أو يتوقعُ أن يقفَ الجيلُ الذي يليهِ عند حدودِه، وهذا ما يمليه المنطقُ عليََّ. .... فما رأيك أنت؟
جواب 8 – الشاعر فائز الحداد : مقدمة الرأي لهذا السؤال صحيحة ودقيقة جدا..
رغم أني لا أعتد بمصطلح الأجيال الهامشي الذي صيرته الأكاديميات النقدية ( كالفصل العنصري ) في الجدولة الزمنية والعزل المصطنعين .
لقد ظلت إشكالية التجييل الشاغل المأساوي الكبير للواهمين نقديا بتقديم المنجز الأدبي وفق منظور زمني أساسه العقد المجدول حسابيا بمقيدات مؤرخنة لمبدعين يعرفون نقديا باسم ( الجيل ) إذ هذا لا يتصل حركيا بالشعر إلا بدالات الشكل كفعل مظهري محسوم ، بمنأى عما سيلحق به وبالشعراء من أذى تناظري يتحمله النقد حصرا كمرافع عاجز وقاضٍ جائر تبوأ ما ليس له ، فارتد لعدم الكفاءة كومبارسا أو أدنى في دائرة الضوء.
وتبرز هذه الإشكالية بأفق أوسع وبذات الوهم عند المنحدرين إلى ساحة الأدب من ضروب معرفية أخرى ، الذين أضافوا للعلة عللا جديدة أكثر أذى من التجييل وذلك بإعلاء شان الضروب الوافدة تناقديا كسجون مبتكرة ظاهرها ثقافي وخافيها إجهاضي لممكنات التأويل اللانهائي ، وبذلك فقد عضدوا المأساة وعمقوا التشويه في التعامل مع المنجز الشعري كدارج كتابي حياتي عند البعض أو كمعبّر مرضي عند نقاد مدارس علم النفس ، لا يجوز تخطيه أو تماثله لكي ينصرف النظر إلى الشعراء كعينات لعدوى _ ربما مضرة _ ينبغي اتقائها والحد من طغيانها بالحجر الوقائي النفسي ، وهنا تكمن عقدة الضعف فالتضاعف الاحاطي التخصصي ونخرة الفشل للمصابين بوهم المعرفة ، والجاهلين بالشعر تماما ككائن متجاوز لكل المحددات والحالات المفترضة وأولها القيود المقيدة والمقرونة بالعصر أو الجيل وثانيها ذلك الغامط لما فيه من المقاصد الظاهرة والمفضية إلى جمالية متجددة ذات تعددية تأويلية منفتحة.
فاصطلاح الجيل إذن كرهن اعتقالي عقدي لا يمثل إلا مهمازا سلطويا لتسيير آلية النقد لصالح اللانقد وهو في تقاطعه ورسالة النقد إنما يعبر عن أنانية تكسبية ، سبيلها الكذب وهويتها المجاملة وهدفها التقرب إلى ( المتسيدين ) ثقافيا لهدف مدان يشي بوضوح إلى محاصرة الشعراء ومقاضاتهم ثقافيا في دكاكين التثاقف لتبنّى الشواذ المشروط بالعناوين وفرض الأستذة بواقع الإرهاب الثقافي والخوف.
لقد واكب الشاعر الحداثي الموت عنادا وعرف كيف يبصم بالحياة ما بعد خرافة التراب ، وقد عبرت نوارسه سقور جهنم صوب جنان شتى لا تدركها إلا مشيئة الشعر .. و لك أن تتصوري حجم الكارثة لنبوءة الذين حملوا راية القصيدة الحديثة مؤمنين بقدرية الشعر في الخلق وصيروتها خطابا يليق بقدسية الحرف كفاتح جديد .
وأرى أن لكل زمن إفرازاته التطورية ومستلزماته وعوامله المحركة ولغته المفصحة عنه.
( لا يمكنُ لحداثةِ نصفَ قَرنٍ مضى أن تُسَمَّى حداثةً اليومَ ما لم تخضَع للتطوُّرِ والتحديثِ المستمِرِّ لمواكَبَةِ العالَم الديناميكي. لا أستطيعُ التكهُّنَ بما يفكِّرُ به أدونيس وغيرُه ممَّن وضعوا أسُسِ الحداثةِ في القرنِ الماضي، ولكنّي لا أستطيعُ تصديقَ أنَّ من خرجَ هو نفسَه على القيودِ التي فُرضت من قِِبَلِِ من سبقوه، يأملُ أو يتوقعُ أن يقفَ الجيلُ الذي يليهِ عند حدودِه )
ووفق هذا الفهم لا يستطيع أي أديب مجدد ومتجدد أن يعتبر ما جاء به إنجيلا خالدا سيلغي أي مشروع حداثي قادم في الرأي والنص الجديدين، كما لا يمكنني التصور بأن الزمن سيقف عند أي مرحلة شعرية كدستور أزلي مقدس .. فذلك يعني توقف الأرض عن الدوران وانتحار الشعر وفناء الكلمة .
سؤال 9 - أ. د. إنعام الهاشمي : الكثيرون َممَّن يقفونَ في وجهِ التجديدِ يتَّكِئون على مرجِعٍ رئيسيٍّّ لتحديدِ سِمات "قصيدة النثر" ألا وهو كتاب سوزان برنار "قصيدة النثر من بودلير حتى الآن" الصادر سنة 1968 والمترجم سنة 1989، والذي كُتِبَ أساساً عن الأدبِ الفرنسي والخروجِ على بحورِ الشِعرِ الفرنسيَّة التي عجَزَ المترجِمُ عن ترجمَتِها واضطرَّ لحذفِها من الترجَمَة؟
والسؤال هو: مادامَ ما كتبه كتّابُ الغربِ عن قصيدةِ النثرِ لا يلائم الشِعرَ العربيّ، وبما أنَّ التطوُّرَ أمرٌ تفرضُه المسيرةُ الثقافيَّةُ الحضاريَّة، فمتى سيكتبُ الشُعراء العرب دستورَ القصيدةَ الحديثةَ، بدلاُ من تكرارِ مقولاتِ سوزان برنار التي لم تعد تُلائمُ العصرَ ولا تتفق أساساً والتطوُّر للقصيدةِ الحرَّة العربيَّةِ وأسسِ ما بعدَ الحداثة؟ ؟
جواب 9 – الشاعر فائز الحداد : هذا السؤال متشعب وينطوي على عدة أوجه التساؤل ..
أي إنه يحمل من الاعتراض ما يحمله من التعرض وله في بيان رأيك المفصح إتجاهان وثالث يشرح عنهما ..
الأول .. تاريخي ، والثاني رؤيوي ، والثالث هو الراشح عنهما ويشير إلى اتجاه معرفة أهمية بيان الاختلاف من عدمه كتأسيس لمرحلة جديدة .. هذا ما سأفرد له إجابة مستقلة لعلاقاته بتجربتي الخاصة .
برأيي مرحلة سوزان برنار من خلال كتابها المعروف " قصيدة النثر من بودلير حتى الآن" الصادر سنة 1968 والذي نالت على أساسه شهادة الدكتوراه، كانت ولا تزال كتأسيس تاريخي لمرحلة مهمة في الشعر الفرنسي.. ولكنها كما قالت عنه ب( لحد الآن ) أي إلى عام 1968 حتما .. وما يلي ذلك يجب أن يكون بمنظار آخر وبرؤية ورؤيا تختلف فهي ليست علامة مسجلة وطابع أزلي على رسالة الشعر. وأعتقد بأن الإشارة إليه كتاريخ للشعر الفرنسي غير خاطئ أما الأخذ به كلازمة وشاهدة في غير موضعها هو عين الخطأ .. فلقد كتب بعد سوزان برنار الكثير والكثير رأيا وتقييما وتحليلا وهنا من حقي أن أتساءل متى نأخذ بشواهد أعلامنا وما تركوه من منجز في هذا المجال ؟ وإلى أي مدى سيبقى التبجح بذكر الرموز الأجنبية كشماعة يتوهم الكثيرون بأنها تدل على ثقافتهم ومرجعياتهم ؟ .
أكاد أقسم أن الكثير من هؤلاء الببغاوات لم يقرؤوا سوزان برنار ولم يفهموا رولان بارت ولا دريدا ولا ميشال فوكو لكنهم يتبجحون بذكرهم سدا لنقص في تكوينهم الأدبي أو للتباهي الإعلاني ، أو بغية الإساءة إلى الذين يرون فيهم فتحا جديدا في مسيرة الشعر الحر الجليلة لا غير. كما إن هذه المرحلة عربيا قد شهدت تطورات شعرية كبيرة وهائلة بعد ما تركته تجربتا السياب والملائكة وما أتصل بهما من آراء وتنظيرات ولو أن جلها تدور في فلك المنسوخ عن القصيدة العمودية وأعني بها قصيدة التفعيلة المعروفة .
برأيي أن من أراد التمسك بالنظر إلى قصيدة النثر العربية بنظارة فرنسية وأوربية له أسبابه كمرجعية لثقافته المصدرية والإشارية معا .. فما تركته الثقافتان ( الفرانكفونية و الإنكلو سكسونية ) من ظلال وضلال له مبرر سلبي لكنه كالضارة الضرورة يستشهد به بل ويرفع شماعته الكلاسيكيون لا حبا بالفرنسيين الذين خرجوا عن بحور الشعر الفرنسي ، بل كرها لقصيدة النثر العربية وهذا ما أشار إليه بوضوح د. محيي الدين اللاذقاني في كتابه ( أباء الحداثة العربية ) ..أما البعض الببغاوي فليبق متأرجحا بين عدم الرأي والرأي الآخر وسيأكل حصيلة عمره في الدوران حول نفسه دون أدنى نتيجة .
لقد قرأت دراسة مختصر ومهمة للكاتب هيثم جبار عباس في موقع الحوار المتمدن قبل فترة ليست بعيدة والتي ذكر فيها ما جاء على لسان الشاعر والناقد العراقي القدير محمد رضا الخفاجي حول مصدرية قصيدة النثر العربية حيث قال الخفاجي ..
" هناك نص في القرن الثاني الهجري على لسان زينب تخاطب أخاها الحسين تقول له : استيقظ يا أخي / استيقظ يا ملكا دون فرسان / استيقظ لقد اسود وشاحي باقتراب أجلك / إن وردة الرمان تنغلق على بلورها / والبوم الخائف يمسك نحيبه / أي خاتمة تلك يا سهل كربلاء الحزين / .
فهل هناك من حجة أو برهان أكبر من هذا الاقتباس أيها المشككون ؟.
فمتى نقول: قال.. ونستشهد عربيا قبل أي رأي مستورد ومنقول .. فالخفاجي أطال الله في عمره حيا معنا ولا زال على قيد الشعر ؟؟!
إنني ومع احترامي لكل الآراء أجد في جذر قصيدة النثر العربية جذرا صحيحا راكزا وحقيقيا يضرب بعمق التاريخ وقد سبقنا الغرب والعالم في ذلك .. مؤكدا صحة هذه المصدرية تاريخيا كشعر المتصوفة أو النثر الفني وغيره بمنأى عما يراه غيري إن عدَّ ذلك نثرا لا شعرا أو ما قيل تشكيكا فيها وبها .. فمهما كتب عن جماعة مجلة شعر عام 1957 كتأسيس لها ( أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج والماغوط لا على سبيل الحصر ) فان الأهم باعتقادي حقيقة هذه القصيدة والتي لا تحتاج إلى برهنة الآن كمنجز شعري كبير في تاريخ الشعرية العربية فهي الأولى الآن بين كل الأجناس ، فهل قصيدة النثر العربية متهمة مدانة كي ندافع عنها ؟!؟.
ولنفترض جدلا بأن عام 1957 هو تاريخها عربيا كما يقول البعض.. أما يكفي هذا العمر كي يكون قوامها الفارع ممشوقا وجميلا بعد مضي أكثر من نصف قرن عليها كدليل على شخصيتها الحاضرة ؟ يا للعجب ؟!! .
وعلى هذا الأساس ودون أدنى شك .. لقد بلغ ( الحب والكره ) مبلغهما في التقييم والتحليل وفي ( الاتهام والبراءة ) و( النعت والمنعوت ) .. ولكن الذي قد غاب عن الأذهان هو أننا كعرب في بدونا أكثر من حضرنا نستطيب الإيقاع والترنم في القراءة كالغناء .. لذلك كان الشعر العمودي المموسق والموزون بتقفيته وجرس رويّه الأقرب إلى مزاج السلطان الممدوح وإلى الغناء بحضرته ورقص جواريه فعمم سلطان العمود بسلطة قسرية كثقافة لا يمكن ( خيانتها ) فسادت وعامت بين الناس لفترة طويلة من الزمن وسقط سلطان قصيدة النثر متقهقرا بتقريب شعراء العمود والجواري وبإقصاء شعراء قصيدة النثر والفلاسفة خارج دائرة الاهتمام وما حصل لأبي حيان التوحيدي النثري الكبير خير مثال عام على ذلك القسر وأيضا ما عاناه شعراء التصوف ومن على شاكلتهم والباحثون عن الحقيقة الشعرية مثال من وجه آخر .
أما ما يتعلق بفحوى سؤال عن ( دستور القصيدة الحديثة ) فأقول باختصار لا دستور مكتوب بمعنى الأقننة للشعر وما يعنينا هنا الشعر الحر فهو ( حر ) وليس مأخوذا بقانون عرفي أو جزائي مسبق كقصيدة العمود وحريته الكتابية وأدواته تتصدى لكل أنواع المحددات والشروط المسبقة .. فهل هناك من سلطة تفرض على الشاعر وهو صاحب سلطة النص ، وهو المتمرد والثائر على السكون والرتابة والمتخارج على القانون؟
قصيدة النثر وما أحدثته من تغييرات كبيرة حاسمة في المشهد الشعري في الشكل والمضمون أيضا ما يعبر عن حالة الانقلاب أو الثورة في بنية الشكل الشعري والمضمون الفكري للقصيدة، فغربيا «إن الهزات الحضارية التي تحدث بصورة منتظمة في تأريخ الفن والأدب والفكر، هي أقرب ما تكون إلى الهزات الزلزالية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع رئيسة كما يراها (مالكم براديري) النوع الأول: هو ما يمكن تسميته الهزات البسيطة وهي تقليعة لا تزيد على عشر سنوات، والنوع الثاني: ما يمكن نعته بالإزاحات الكبيرة التي تمتاز بالتحولات العميقة والواسعة، ويستمر تأثيرها مدة طويلة تقاس بالقرون، والنوع الثالث: هو ذلك النوع المدمر الكاسح الذي يقوض مساحات واسعة ويتركها أكواما من الأنقاض، وهذا ما جاء به القرن العشرون من تحولات) وما يسميه البعض ب (الثورة الفنية المعاصرة) وإن كانت تسمية «الثورة» كبيرة في هذا السياق لأنها تعبر عن التقويض أكثر من البناء وإنها (تحطيم بل انحلال مأساوي) على حد تعبير ( مالكوم براديري)..
وما هو مهم في هذا السياق هو أن قصيدة النثر العربية هي استكمال لمشروع النثر الشعري القديم واستمرار له، ولو أن النثر قد سبق الشعر إرثا وتاريخا، وما يمكن الارتكان إليه كحقيقة في أن مصادر قصيدة النثر العربية تكمن في التاريخ الأدبي العربي، وما من جديد فيه إلا الرجوع إليه والإمساك بأصوله بشكل حضاري معاصر، وهذا ما يدحض الرأي الخاطئ القائل بأن مصدر قصيدة النثر العربية هو (غربي) ولنا في الإرث الكتابي لأعلام الحداثة العربية خير دليل، و يقف النثر الصوفي في مقدمته.. بما يدحض أيضا الآراء الدخيلة والوافدة بشكل شبه قسري، أو قسري أحيانا لتجريد قصيدة النثر من إرث مصدريتها العربية الخالصة، ولكن رغم محاولات التغييب لها والتجني عليها، فقد تبوأت مكانتها واستكملت شروط ذيوعها المطبوعة عربيا وعالميا..
سؤال 10 – أ. د. إنعام الهاشمي : وهل ترى أنَّ بيانَ اختلاف هو الحجرُ الأساسُ في هذا الدستورِ والطريقِ إلى المرحلةِ القادمةِ في ما بعد الحداثة؟
جواب 10 – الشاعر فائز الحداد : بيان جماعة الاختلاف الذي أصدرته‏ والمنشور في مواقع متعددة هو ليس بدستور جديد لقصيدة النثر بقدر ما هو بيان يفصح عن رؤيتي عن النص الحديث إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار احترام كل الآراء حول ما جاء بصددها .. لكنه يمثل رؤيتي لها وفيها وعنها ، فالأيمان بها وبوجودها هو جوهر المسألة في نظري والتطور الطبيعي لتاريخ الشعر العربي لا غيره.. وأنه مشروع الشعر المستقبلي بلا منازع ، من المفروض أن يؤسس لغته وفق آفاقه الرحبة الجديدة. فإذا كانت الثقافة هي حياض الشعر ، فالشعر هو أبو الأدب عامة ومن أصابعه خرجت كل الفنون والعلوم وحتى الصرفة منها، ولا يمكن فهم أو النظر إلى المتغيرات الشعرية بمنأى عن فهم المتغيرات الثقافية عامة ، لكن الشعر يبقى أعلى قيمة إبداعية من كل المكونات الثقافية والأدبية الأخرى باعتباره الصفوة والنخبة لغة وفنا، والمشروع الشعري هو مشروع فردي رؤياوي، وليس له بالضرورة أن يعبر عن موقف حياتي جمعي إلا بانعكاساته الأخرى، كما أنه لا يعبر عن موقف تاريخي رسمي أو سلطوي... فالشعر يتناقض كليا مع السلطة بكل مفاهيمها وليس للشاعر من سلطة سوى سلطة النص.
إنني أجد في الاختلاف حالة من الائتلاف.. والتواصل بينهما يعني التواصل بين الماضي والمستقبل عبر قناة الحاضر، فالقدامة جذر الحداثة والحداثة ابنة القدامة الشرعية، ولكن التعبير عن التطور والعلاقة فيما بينهما أصابه سوء الفهم والتشويه.. فلا خير في نص يبقى مراوحا في مكانه ولا يأخذ بأسباب التطور الحداثي شعريا ولغوياً وما عليها، بمعنى أن يتم التجدد بمنطق ومفهوم معاصر ومستقبلي أيضا.
فالنص الحديث لا يؤمن بالجمود ولا يذعن للثابت المتحجر.. فنحن لا نصنع هيكلا جامدا بل نبتكر كائنا حيا له روح وقيم معرفية تضيف للحياة بما يعبر عنها وعنه.. فهو نص متجدد ومتبدل في رؤيته ورؤياه ومستمر الحراك بمعنى الخلق والإبداع.
النظرة إلى الاختلاف يجب أن تتبنى النص المختلف في الثيمة واللغة والشكل والمضمون والرؤية والرؤيا، وفي خلاف ذلك لا اختلاف هناك..!!؟
و سوف أتطرق إلى محتوى بيان جماعة اختلاف بشكل أوسع في الحلقات القادمة من حوار النخبة.
وهنا أتوقف لأقول:
باعتزاز كبير ومحبة عالية .. أشكر أستاذتي الأديبة والمترجمة الكبيرة الدكتورة إنعام الهاشمي على حوارها النوعي هذا متمنيا لها دوام النجاحات التي تظللنا بها دائما على طريق الأدب الرصين.
فائز الحداد
العراق
___________
وأنا بدوري أتقدم بشكري وتقديري ومحبتي إلى شاعرنا المتفرد بشعرِه وأدبه وفكره العرّاب فائز الحداد لما قدمه في إجاباته من وجبة فكرية معرفية ، متمنية له المزيد من الألق الذي يليقُ به وبالمسيرة الأدبية التي يقودها، كما وأتمنى له طول النفس الذي هو بحاجة إليه في الإجابة على الكمِّ الهائل من الأسئلة الذي وردنا من النخبة.
...................
حرير و ذهب (إنعام)
الولايات المتحدة
_______
لقراءة الحلقات الكاملة من الحوار إضغط هنا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.