حين طلب الخديو إسماعيل عام 1867 من مدير متنزهات باريس إحضار أحد الخبراء، لتصميم حديقة تكون على شكل جبلاية، وتظهر على شكل قيمة معمارية عالمية، لم يكن يتوقع "إسماعيل" أن يأتي اليوم الذي يناقش فيه مجلس الشورى طلب إحاطة تقدم به النائب عماد المهدي، عن حزب النور، كاشفا عن الفساد والممارسات اللا أخلاقية التي تحدث بالحديقة، بعدما تحولت إلى ما يشبه الوكر الذي ترتكب فيه الأعمال المنافية للآداب والزوق العام، وأن يصبح روادها من ذوي البحث عن الشهوات فقط. هنا تقع حديقة الأسماك، أو الجبلاية كما يسميها البعض.. ذلك المكان الذي كان مقصدا لجميع فئات الشعب، ومحبي الترويح، والبحث عن نزهة أنيقة، لكن تحول بين عشية وضحاها إلى مكان تفوح منه الرائحة الكريهة، وتتناثر فيه القمامة بشتي أماكنه، فضلا عن أحواض الأسماك الفارغة، رغم أن الحديقة تحمل اسم "جنينة الأسماك". كانت الحديقة بمثابة الموطن الترفيهي لشرائح شتى من المجتمع المصري، وفي مقدمتهم الفنانين والمثقفين والمغنيين والممثلين، حيث سبق أن توقف عندها الكاتب الكبير أنيس منصور فكتب عنها، كما عرفت الحديقة أقدام الفنانين شادية وفاتن حمامة وأحمد رمزي وأحمد مظهر، وغيرهم من الفنانين، في بواكيرهم السينمائية، وحدث ماهو أبعد من ذلك أن تم تصوير أحد الأفلام السينمائية بداخلها، وحمل اسم "جنينة الأسماك". ولما انتشر بين جموع الشباب والعشاق أن حديقة الأسماك باتت المكان الآمن لفعل كل ماهو مباح، انتقل مندوب "بوابة الأهرام"، إلى حيث يتحدثون ويصفون ويتناقلون فيما بينهم ما يدور على أرض الواقع في هذا المكان التاريخي بين شباب وفتيات اتخذوا من الحديقة مأوى لفعل ما يشاءون بعيدا عن أعين المتطفلين. حين تدخل من الباب الرئيسي للحديقة، والمطل على كورنيش النيل بمنطقة الزمالك، وتبدأ التحرك قليلا في أرجاء الحديقة، قد ترى أسفل نخلة طويلة تقع على بعد 100 متر من الباب الرئيسي، شابا وفتاة يجلسان في وضع غير أخلاقي، وعلى مقربة منهما يقوم عامل النظافة بجمع مخلفات الطعام، غير عابئين برجل كبير ينظر إليهما نظرة تحمل معاني الانحدار الأخلاقي. وبينما تقف لمشاهدة نظرات عامل القمامة لأفعال الشاب والفتاة، إذا بأسرة مكونة من أب وأم وابنة، تخرج في طريقها إلى الباب الرئيسي، والزوجة تقول لزوجها: "المكان ده مش هدخله تاني"، ليرد الزوج بالقول: "مكنتش أعرف أنه بقى كده".. وهنا استوقفت الأسرة لأعرف منها السبب. قالت الزوجة: "أنا بنتي عندها 16 سنة مينفعش تشوف الأفعال دي"، وهنا ظهر على وجه ابنتها ملامح الخجل مما تقوله والدتها، ثم عادوت الزوجة بسؤال: وماذا شاهدتم بالداخل حتى تخرجون ويظهر علي وجوهكم على الضيق؟، فردت سريعا بالقول: "دي قلة أدب.. دي مبقتش حديقة عامة.. دي بقت مكان لقلة الأدب، مش عايزة أقول أكتر من كده". سألت الزوج: ماذا كنت تسمع عن الحديقة قبل أن تأتي إليها؟، فأجاب: أنا مكنتش أسمع عنها إنها كده، لكني بنتي قالتلي دي سمعتها وحشة، بلاش نزورها، لكن أنا كنت مصمم إنى أجي المكان ونتفسح عادي، لكن بصراحة ندمت". وقال: "بعيدا عن الأعمال اللا أخلاقية، وجدنا أحواض الأسماك فارغة، والحديقة غير نظيفة بالمرة، وتنتشر فيها القمامة، ويفوح منها الرائحة الكريهة، ولاتوجد لوحات إرشادية بجانب الأحواض التي نادرا ماوجدنا بها أسماك.. وبعدين الإهمال والفوضي بقت مالية البلد، مجتش على المكان ده يعني". إلى الباب الرئيسي للحديقة رحلت الأسرة إلى غير رجعة، وإلى الكهوف توجهت لنري بأعيننا ما كنا نسمع عنه، وروته لنا تلك الزوجة وزوجها كما يجري بالداخل، بعيدا عن عيون مسئولي الحديقة. مغارات مظلمة، وطرقات معوجة، وكلما تحركت خطوات معدودة، يستوقفك مشهد سينمائي.. شاب وفتاة يتبادلان الحب على طريقتهما الخاصة، وفور أن يشاهداك يبتعدان عن بعضهما، ويتبادلان الابتسامات فيما بينهما، وكأن لسان حالهما يقول: "فاصل ونواصل". بين ممرات المغارات المظلمة، لا يبالي الشاب والفتاة من ممارسة الحب كيفما شاءا، إذا كان يتواجد بجوراهما شاب وفتاة آخران، فكلاهما يقوم بنفس الفعل.. وكلاهما يعطي الأمان للآخر، وكل منهما لا ينظر للآخر.. فليس هناك وقت للنظر إلى العشاق الذين بجوارهما، لكن إذا تواجد وسط هؤلاء شاب لا يصطحب فتاة، فإنهما يتوقفان عما كانا يفعلان، إلى حيث يرحل هذا الشاب، الذي غاليا ما يعتبرانه متطفلا، أو يهوي مشاهدة "القبلات المسروقة" عن قرب. وهكذا كنت.. لم أصطحب فتاة إلى حيث أسير داخل الحديقة، وكان الجميع ينظر لي، حيث لا وجود لشاب بلا فتاة، وكل من يتواجدون في الحديقة، إما "Couples" أو شابان مع فتاتين، يقوم كلاهما بتأمين الآخر. كانت المفاجأة أن بائع الشاي، حين يقترب من شاب وفتاة وهما في وضع غير أخلاقي، يقف من بعيد ويقول: "باشا.. باشا"، وهنا ينتبه الشاب والفتاة، ويبتسم كل منهما للآخر، ثم يقوم الشاب بطلب المشروب له ولمحبوبته، ويرحل البائع وكأنه لم ير شيئا، ويذهب إلى شاب وفتاة آخرين، ليتكرر نفس المشهد. تركنا العشاق جانبا، وتجولنا في الأماكن المتواجد بها الأحواض السمكية، لنرى على أرض الواقع: هل كلام الأسرة التي استوقفناها في بداية دخولنا كان صحيحا أم مجرد تهمة غير موجودة؟. بالفعل.. أحواض سمكية فارغة، بل لا وجود للمياه بها من الأساس، وإن وجد حوض سمكي يحوي أي نوع من الأسماك، فلا وجود للبيانات التي تخصه.. اسمه.. وزنه.. صفاته.. وكأن كل من يذهبون لمشاهدة الأسماك، علماء في علوم البحار، ويعرفون كل شىء عن هذه الأسماك !. حين تخرج من الجبلاية، وأنت في طريقك إلى الأحواض السمكية الكبيرة، التي تتواجد بعيدا عن الكهوف، تتفاجأ بنوع جديد من العشاق يجلسون في أوضاع مخلة.. إما الشاب يسترخي على الأرض ويضع رأسه على قدم الفتاة، أو العكس.. وحتى إذا شاهداك قادمًا في اتجاههما، يبقى الوضع كما هو عليه. هنا أحواض الأسماك، تحيطها الأسلاك الحديدة، وتغطى بالبلاستيك، والمفاجأة: خاوية من المياه، ولم يتبق فيها سوى بقايا القمامة، ومواسير الحديد، التي يظهر الصدأ عليها، وحين تتجول فيها، لن تجد أي شخص يقول لك: "ممنوع الدخول هنا". يتواجد في هذه المنطقة حوضان كبيران، طول كل منهما لا يقل على 25 مترا تقريبا، وعرضه حوالي 10 أمتار، ويبدو عليهما أنهما مهجوران منذ فترة طويلة، وبدلا من أن يوضع بهما الأسماك، وضعوا فيهما الحديد وأفرع الخشب، وفرغوهما من المياه تماما. في الماضي، كانت حديقة الأسماك تضم عشرات الأحواض التي تضم الأسماك المتنوعة، منها النادرة مثل النيلية والبحرية، أسماك الزينة، والأخرى المحنطة، فضلا عن والزواحف، والأشجار والنباتات النادرة، التي يعود أصل جذورها إلى أستراليا ومدغشقر وتايلاند، حيث الغابات النادرة، التي تتميز بها هذه المناطق.. لكن كل ذلك دونته كتب التاريخ، وبات لاوجود له سوى الأشجار النادرة فقط. حين تنتهي من صدمتك التي تواجهها عندما تجد الأحواض السمكية تظهر على هذا الحال، تتجول على جوانب الحديقة، فتجد الأواني الفخارية التي من المفترض أن تتم زراعة النباتات بها، ملقاة على الأرض، بضعها مهشم، والبعض الآخر يمتلئ باوراق الشجر، أو القمامة. من الأواني الفخارية، إلى ألعاب الأطفال.. حيث "المراجيح" التي تحطمت بالكامل، وتطايرات مكوناتها في أرجاء الحديقة.. الحديد في مكان.. والمقاعد الخشبية للألعاب في مكان آخر، والإهمال فيها وصل حد الذهول مما يحدث، وبات لاوجود للأطفال أنفسهم داخل الحديقة، لأن المكان ليس مكانهم.. هكذا قال الواقع. انتهت الجولة، وعاد كلام الأسرة يتردد في الذهن.. "مفيش حاجة نشوفها غير قلة الأدب فى هذه الحديقة".. ومادام الوضع هكذا، فإن "بوابة الأهرام" تمتنع أدبيا وأخلاقيا عن نشر أية صور قد تسيءإلى هؤلاء الشباب الذين التقطتهم الكاميرا، وهم يقومون بارتكاب أفعال منافية للآداب، وحفاظًا أيضًا على حياء قرائنا الأعزاء، لكننا ننشر صورًا للحديقة توضح حجم الإهمال الذي طالها، وجعلها ملاذا لممارسة هذه الأفعال الخادشة للحياء.