بات جلياً أن الأحزاب السياسية منفردة باتت عاجزة عن المنافسة السياسية الجادة، أو طرح بدائل حقيقية سواء للقائمين على السلطة أو سياساتهم، من خلال رؤى خلاقة تجسد مرجعيتهم العقائدية. وضاعف من حدة هذا الإخفاق، حالة الاستقطاب السياسي الحادة التي يمر بها المشهد المصري، التي عبرت عن نفسها بالفشل في تكوين ائتلاف عابر لهذا الاستقطاب بين أنصار التيارين الإسلامي والمدني، والمحاولة التي بذلها حزب النور مؤخراً بمبادرته للبدء في حوار وطني جاد، وتفاهماته مع قادة جبهة الإنقاذ لتشكيل تحالف سياسي مؤقت، يعبر بمصر من حالة الأزمة التي تعنيها الآن، إلا أنها جُمدت بسبب العراقيل في حشد الدعم والتأييد لها داخل التيارين الإسلامي والمدني على السواء. إزاء هذا الإخفاق، اندفعت القوى الحزبية للتكتل في ائتلافات أوسع لتكون بمثابة مظلة سياسية تستفيد من المزايا النسبية التي يسمح بها الاندماج السياسي، وزيادة الحضور والثقل السياسي سواء في الشارع أو تجاه الخصوم السياسيين، ولذا شاهدنا مولد جبهة الإنقاذ الوطني التي تشكلت من 10 أحزاب ثم زاد العدد إلى 14، ثم تراجع مع انسحاب حزب غد الثورة بزعامة أيمن نور. قبلها تشكل التيار الشعبي بزعامة حمدين صباحي من قوى ناصرية ويسارية مع قوى ليبرالية مثل المصري الديمقراطي، بالإضافة للائتلاف القوى الاشتراكية، وتيار الاستقلال الذي يتكون من 10 أحزاب صغيرة متعددة التوجهات مثل التجمع والأحرار. في الجهة المقابلة تشكل ائتلاف القوى الإسلامية الذي ضم 8 أحزاب إسلامية بالإضافة لأربع قوى دينية أبرزها جبهة علماء الأزهر، قبل أن يجمد حزب النور عضويته بشكل غير رسمي، بسبب موقف تلك القوى من مبادرته السياسية للمّ الشمل الوطني. وبالأمس برز لنا تكتل جديد يحاول أن يكون عابرًا للاستقطاب السياسي "جبهة الضمير الوطني" مكون من أربع شخصيات محسوبة على أحزاب ذات مرجعية إسلامية: الوسط، الحرية والعدالة، الحضارة، والأصالة، والبناء والتنمية بالإضافة لحزب غد الثورة الليبرالي، وحركة "قضاة من أجل مصر" والعديد من الشخصيات العامة والمستقلة، تحاول تلك الجبهة الجديدة أن تشق طريقاً ثالثاً لتفكيك حالة الاستقطاب السياسي التي باتت عصية، لعلها تنجح في وأد ظاهرة العنف السياسي، ولمّ الشمل الوطني، أو شق طريق للتقريب بين التيارين الإسلامي والمدني. وكان الاعتقاد العام أن تلقى تلك المحاولة ترحيباً من جانب القوى السياسية، على الأقل بوصفها منافساً يدعم فكرة التعددية السياسية داخل المشهد الحزبي، ومحاولة لردم هوة الاستقطاب المتزايدة بين التيارين الإسلامي والمدني. إلا أن الواقع أظهر خلاف ذلك، إذ باتت الجبهة بمثابة اللقيط سياسياً، فهذا التيار ينكر عليها الوجود السياسي، وذاك يتهمها بكونها ستاراً يتستر وراءها الإخوان، وآخر يعتبرها جزءًا من الموالاة الجديدة لمحاربة جبهة الإنقاذ. ونسى الجميع أن خطابهم السياسي العدائي لا يتسق مع أفكارهم عن الديمقراطية أو الحريات العامة وقبول الآخر. حتى لو افترضنا أن هذه المزاعم تقترب من الحقيقة، ما يضير تلك القوى من المنافسة السياسية وظهور كيان سياسي جديد؟ لقد اندفعت القوى السياسية دون استثناء للهجوم على هذا الكيان الجديد، واصطياد ما بدا أنه أخطاء البداية للتشهير به. كما فعل ثروت الخروباي القيادي السابق في الإخوان الذي اتهم الجبهة بالتدليس وضم أعضاء ليس لهم وجود حقيقي بالجبهة في إشارة إلى اسم سامح فوزي عضو مجلس الشورى، لإظهار التنوع الديني داخلها. إذ ورد اسمه في البيان الذي وزع مساء الجمعة، والذي سرب عن عمد بهدف إحداث تشويش على الجبهة، ونفي انضمامه للجبهة. كان أعنف انتقاد وجه للجبهة من جانب أحزاب الإنقاذ، حيث اعتراض القيادي بحزب الدستور جورج إسحاق على تسمية الجبهة بالضمير، وقال عليهم بتصحيح ضمائرهم أولا ثم التفكير في الضمير الوطني، مؤكداً إذا كان ضمير هذه الجبهة يؤلمها فليتحدثوا مع رئيس الجمهورية لكي يتوقف عن قتل الأبرياء وإسالة الدماء بالشوارع. كما أبدى محمد محيي الدين وكيل حزب غد الثورة وعضو مجلس الشورى اعتراضه على التسمية مؤكداً أن اسم الجبهة يعطي انطباعاً بالمواجهة والصراع، وأن وجود قوى إسلامية من حزب الحرية والعدالة يجعل من الجبهة موالاة جديدة ضد المعارضة، وعلى رأسهم جبهة الإنقاذ. أما البرلماني السابق محمد أبو حامد، فقد بالغ في اتهامه حد الهذيان السياسي بالقول إنها بمثابة أدوات للإخوان لشق صف المعارضة، بينما الشارع في تيه لا يمثله أحد. هذا الاتهام خفف من حدته أحمد فوزي الأمين العام للحزب المصري الديمقراطي، بقوله: إن جبهة الضمير استنساخ لجماعة الإخوان المسلمين لمواجهة المعارضة. فيما اعتبرها عماد جاد أحد نواب الحزب كاشفة لحقيقة الخلايا النائمة التي كانت مندسة بالأحزاب الأخرى. وبالغ في اتهامه بوصف القوى المشاركة في الجبهة بكونها فروعا لجماعة الإخوان المسلمين أو منشقة عنها، وأن تقديم جبهة الضمير في مثل هذا التوقيت محاولة لتقديم بديل سياسي لجبهة الإنقاذ. فيما اعتبرها ماجد سامي لحزب الجبهة الديمقراطية محاولة للالتفاف على مطالب الشعب في عيش وعدالة اجتماعية وحرية، واعتبر أن مؤسسة الرئاسة تقف وراء التكتل الجديد، وقال: "على جبهة الضمير مخاطبة الرئيس لإعمال الحق والعدل في التعامل مع المواطنين لتحقيق أهداف الثورة". كما نفى المستشار زكريا عبد العزيز انتماءه للجبهة وكذلك فعل الفقيه الدستوري ثروت بدوي. أما داخل الإخوان فقد نفى القيادي بالجماعة محمود غزلان انتماءه هو الآخر للجبهة، وأكد أن الإخوان ليس لديهم ما يخفونه عن الشعب لكي يتستروا بالجبهة، ووصف الشخصيات المكونة لها بالاحترام والحضور السياسي بالشارع. كما نفى محمود عامر القيادي بحزب الحرية والعدالة الاتهامات بكون الجبهة صناعة إخوانية، لكونهم لديهم صناعتهم الأساسية بالحزب والجماعة. وإن أفصح هذا التعامل مع الكيان الجديد عن شيء، فعن افتقاد القوى السياسية لروح التسامح وقبول الآخر، وحدة الاستقطاب العقائدي الذي بلغ مستوى العمى السياسي، فكل طرف يرى في الآخر عدوا، وكل حركة تستهدفه سياسياً. ما يجعل من قضية لمّ الشمل قضية بالغة الصعوبة، لكوننا أمام نخبة سياسية غير قادرة على التفاهم السياسي أو حتى قبول الآخر.