إذا أصبح باطن الأرض أرحم عند الفقراء من ظاهرها، وتحولت المقاهى إلى منازل يسكنها العاطلون، ولم تعد الشعوب تراهن على شىء، أو تخاف من شىء، حينها تحدث ما يسمى "ثورة الجياع"، التى يغزيها ارتفاع الأسعار، والبطالة، وإذا لم يُكتب لتلك الثورات، النجاح، فيكفى أنها دقت نواقيس الخطر لشر ما هو مقبل، ووقتها لن يفيد البكاء على اللبن المسكوب. أغلب الدول العربية والإفريقية، إن لم يكن جميعها، تعاني نسبة كبيرة منها انتشار البطالة، الوجه المرادف لتدني الدخل وتنامي معدلات الفقر، ويوازي ذلك ارتفاع مستمر فى الأسعار السلع الغذائية، لتكون المحصلة مزيدًا من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بصورة كبيرة. وهو ما تحاول السياسات الاقتصادية فى مصر تحاشيه منذ فترة، باتخاذ سلسلة من الإجراءات لاصلاح الاقتصاد بصورة تدريجية، ومحاولة علاج أوجه الخلل فى بعض القطاعات، من خلال استمرار الدعم وتوسيع شرائح المستفيدين من السلع التموينية. ما حدث فى تونسوالجزائر من مظاهرات عارمة اجتاحت البلاد، وتساقط قتلى ومصابين بالمئات، من المواطنين ورجال الأمن، يكشف بما لايدع مجالا للشك، عن أن ما يحدث فى مصر من ارتفاع فى الأسعار، وتضخم، وتراجع نسبى فى معدلات النمو، يحدث أيضًا فى الوطن العربى، لكن الاختلاف بين مصر، ودول عربية مجاروة لها، هو الاختلاف فى طريقة التعبير عن الغضب. مظاهرات مواطنى الجزائر شهدت تجاوزات خطيرة، حيث اشتدت موجة الاعتداءات، وطالت مواطنين من العُزل جرى ابتزازهم، ولم تسلم مصارف ومقار شركات كبرى وصغرى، من حملة النهب والتخريب، مما دفع وزارة الداخلية فى الجزائر إلى فرض حالة تأهب أمنية قصوى، لكن بعد فوات الأوان، فسقط القتلى والجرحى من المدنيين والمواطنين. ورغم مرور أربعة أيام على مظاهرات الغضب الجزائري، إلا أنه لاتزال مساعى التهدئة وتطويق الأزمة مستمرة، فى محاولة لاحتواء الغضب الذى مايزال ساخنًا، رغم تصريحات المسئولين هناك، بأن الأوضاع هدأت، بعدما أرجأت الحكومة قرار رفع الأسعار حتى يتم وضع جهاز تنظيمى منصف، يستند إلى ماجاء فى بيانات الحكومة. مظاهرات الغضب فى الجزائر، خلقت تحولا مريبا، بعدما سارعت مجموعات شبابية منحرفة إلى اتخاذ هذه المظاهرات غطاء لممارساتها المشينة، التى تركزت على أعمال الشغب، وتخريب المرافق العامة، والقيام بعمليات سطو على نطاق واسع، وحرق سيارات، ومحال تجارية. لكن فى مصر الأمر مختلف تمامًا، فغالبا ما تُرجع وسائل الإعلام وحركات اجتماعية، وجمعيات حماية المستهلك، وبعض الهيئات الحكومية، ارتفاع الأسعار إلى التجار، ويصفونهم بالجشع، والكسب السريع، أما فى الجزائر فقد صب المواطنون جام غضبهم على الحكومة، ليهرب التجار الجزائريون من غضب المواطنين، وتلافى عمليات التخريب لمحلاتهم، ومنشآتهم التجارية بأن قاموا بغلقها تماما خلال الأربعة أيام الماضية التى شهدت أحداثا مؤسفة. وعلى النقيض لآراء المتظاهرين بأن ما يقومون به، أبلغ رد على قيام الحكومة بمضاعفة أسعار السلع الرئيسية، جاءت آراء شرائح جماهيرية متعددة تشكك فى صدق نوايا المحتجين، لتشير إلى وجود عناصر خارجية لها دور فيما حدث، بدليل أن موجة ارتفاع الأسعار شهدها معظم الدول العربية، لكن لم يقمم مواطنوها بارتكاب هذه التجاوزات التي أقدم عليها الجزائريون. ولم يختلف المشهد فى الجزائر عن نظيره فى تونس الخضراء، بل أكثر حمقًا فى ثورته، حيث يتزايد عدد قتلى على الجزائر، ليصل إلى 25 شخصًا، فضلا عن عشرات المصابين، وهو ما يعكس تطورًا فى المضمون الاجتماعى للحركات الاحتجاجية فى تونس، الذي جاء نتيجة لضرب الأجهزة الحكومية التونسية عرض الحائط بآراء مواطنيها. لا وطن يخلو من وجود بطالة، وهذا ما لا يريد التونسيون الاعتراف به، الأمر الذى تبدلت معه ثقافة المواطن التونسى من مساند للتنمية التى تسعى إليها الحكومة، لتقوية اقتصادها، إلى ناقم على أوضاع سياسية واجتماعية، واقتصادية، ولم يعد الحل الوسط دافعًا للتونسيين على الانصراف عن العمل السياسى والشأن العام. النقائص المسجلة من واقع الحكومات، لا يمكن حلها بالتخريب، أو بلغة "لىّ الذراع"، وهذا ما كشفت عنه أنظمة سياسية عديدة، خلال تعاملها مع المظاهرات والاحتجاجات، لكن الرئيس التونسى، فى محاولة يمكن تسميتها الرضوخ إلى الأمر الواقع، تعهد بتعيين كل حملة الشهادات العليا قبل انتهاء العام المقبل، وإعفاء المشروعات الجديدة التى سيتم إنشاؤها من الضرائب لمدة عشر سنوات تشجيعًا منه للشباب على الاتجاه للعمل فى القطاع الخاص. زين العابدين بن على، يبدو فى موقف لا يحسد عليه، لكنه رد على من يهاجمون الحكومة ويتهمونها بأنها سبب تزايد أعداد العاطلين، بقوله إن تونس ليست وحدها التى تنتشر بها البطالة، داعيًا المواطنين إلى النظر لحال الدول المجاورة، وما تعانيها من مشكلات فى أسعار السلع، وانخفاض معدلات التوظيف. ما حدث فى الجزائروتونس، رسالة شديدة اللهجة - بما لايدع مجالا للشك – لكبار الساسة فى الدول العربية المجاورة وغير المجاورة، بألا يتجاهلوا أي آراء تحذر من غضب شعبى، تفاديًا لقدوم لحظة الحسم، واشتعال ثورات الغضب، التى لن يحترق بنيرانها سوى من تسبب فى إشعالها، ووقتها لن يفيد البكاء على اللبن المسكوب.