الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن مواعيد جولة الإعادة للدوائر ال 19 الملغاة والصمت الانتخابي    خبير اقتصادي: توقعات بارتفاع أسعار الذهب والفضة في 2026    أخبار الاقتصاد اليوم: استقرار سعر الدولار والذهب.. وزير المالية يوضح كيف تدير الحكومة الدين.. 21 مليار جنيه خسائر للبورصة    جمال رائف: صفقة الغاز مع إسرائيل رابحة لمصر ولا تمثل أي ورقة ضغط سياسية    ترامب: السيسي صديقي وسأكون سعيدا بلقائه    الخارجية الروسية: تطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن ليس بالأمر السهل    ليفربول يفتح ملف التجديد لنجم الفريق بعقد طويل الأمد    وفاة الفنان التشكيلي محمد عمر سليمان    سنن يوم الجمعة: آداب وأعمال مستحبة في خير أيام الأسبوع    7 أصناف من الأطعمة مفيدة لمرضى الأنيميا والدوخة المستمرة    الدفاع المدني بغزة يحمّل المنظمات الدولية والاحتلال مسؤولية ضحايا مخلفات الذخائر    تكريم مسؤول ملف السيارات ب«البوابة» في قمة EVs Electrify Egypt تقديرًا لدوره الإعلامي    إصابة 5 أشخاص باختناق نتيجة تسرب غاز في بشتيل بالجيزة    مجمع الفنون والثقافة يحتضن فعاليات مسرح المنوعات بجامعة العاصمة    جامعة حلوان التكنولوجية الدولية تنظم زيارة للمعرض الدولي السابع للأقمشة    ضياء رشوان: لا يوجد أي نوع من الترتيبات أو الاتصالات بشأن عقد لقاء بين الرئيس السيسي ونتنياهو    الداخلية تكشف حقيقة نقل ناخبين بسيارة في المحلة    سوريا تتوج بجائزة اللعب النظيف في كأس العرب    محاربة الشائعات    الأهلي يرفض بيع عمر الساعي ويقرر تقييمه بعد الإعارة    نازك أبو زيد: استهداف الكوادر الصحية والمستشفيات مستمر منذ اندلاع الحرب في السودان    نازك أبو زيد: الفاشر وكادوقلي والدلنج على شفا المجاعة بسبب الحصار    الداخلية تضبط سيارة توزع أموالا بمحيط لجان فارسكور    الجيزة: غلق جزئي بمحور أحمد عرابي أعلى محور الفريق كمال عامر غدا الجمعة    أراضى المانع القطرية بالسخنة «حق انتفاع»    المخرج أحمد رشوان يناشد وزارة الثقافة المغربية التحقيق في أزمة تنظيمية بمهرجان وجدة السينمائي    بنك الإسكندرية يحصل على حزمة تمويل بقيمة 20 مليون دولار أمريكي    تقرير: برشلونة لم يتوصل لاتفاق لضم حمزة عبد الكريم    وفد الأهلي يسافر ألمانيا لبحث التعاون مع نادي لايبزيج    نازك أبو زيد: الدعم السريع اعتقلت أطباء وطلبت فدية مقابل الإفراج عن بعضهم    إطلاق مبادرة «مصر معاكم» لرعاية أبناء شهداء ومصابي العمليات الحربية والإرهابية    أسرة الراحلة نيفين مندور تقصر تلقى واجب العزاء على المقابر    الداخلية تضبط مطبعة غير مرخصة بالقاهرة    جولة الإعادة بالسويس.. منافسة بين مستقلين وأحزاب وسط تنوع سلوك الناخبين وانتظام اللجان    بتكلفة 10.5 مليون جنيه، افتتاح 5 مساجد بمراكز إهناسيا والفشن وبني سويف    الأرصاد: تغيرات مفاجئة فى حالة الطقس غدا والصغرى تصل 10 درجات ببعض المناطق    الصحة اللبنانية: 4 جرحى فى الغارة على الطيبة قضاء مرجعيون    محافظ الدقهلية يكرم أبناء المحافظة الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم    وزير الأوقاف يكرم عامل مسجد بمكافأة مالية لحصوله على درجة الماجستير    قطر تستضيف مباراة إسبانيا والأرجنتين فى بطولة فيناليسيما 2026    فوز مصر بجائزتي الطبيب العربي والعمل المميز في التمريض والقبالة من مجلس وزراء الصحة العرب    هل تتازل مصر عن أرص السخنة لصالح قطر؟.. بيان توضيحي هام    عبد اللطيف صبح: 55% من مرشحى الإعادة مستقلون والناخبون أسقطوا المال السياسى    ضبط عامل بالدقهلية لتوزيعه أموالًا على الناخبين    الترويج لممارسة الدعارة.. التحقيق مع سيدة في الشروق    الخارجية: عام استثنائي من النجاحات الانتخابية الدولية للدبلوماسية المصرية    الرعاية الصحية: مستشفى الكبد والجهاز الهضمي قدّم 27 ألف خدمة منذ بدء تشغيل التأمين الصحي الشامل    نبيل دونجا يخوض المرحلة الأخيرة من برنامجه التأهيلي في الزمالك    جلوب سوكر - خروج صلاح من القائمة النهائية لجائزتي أفضل مهاجم ولاعب    المستشفيات التعليمية تناقش مستجدات طب وجراحة العيون في مؤتمر المعهد التذكاري للرمد    تخصيص قطع أراضي لإقامة مدارس ومباني تعليمية في 6 محافظات    الداخلية تضبط قضايا تهريب ومخالفات جمركية متنوعة خلال 24 ساعة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025    وزير الصحة: الذكاء الاصطناعى داعم لأطباء الأشعة وليس بديلًا عنهم    د. حمدي السطوحي: «المتحف» يؤكد احترام الدولة لتراثها الديني والثقافي    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى المنيا.....اعرف صلاتك    بطولة العالم للإسكواش PSA بمشاركة 128 لاعبًا من نخبة نجوم العالم    غياب الزعيم.. نجوم الفن في عزاء شقيقة عادل إمام| صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عاش حياته ينشد أناشيد البساطة والعذوبة.. يحيى حقى القنديل المضىء
نشر في بوابة الأهرام يوم 20 - 03 - 2021

فى منتصف القرن التاسع عشر، وفد إلى مصر شاب تركي، اسمه إبراهيم حقى، كانت خالته تعمل بأحد قصور الخديو إسماعيل، وقد ساعدته فى العمل بإحدى المصالح الحكومية، وتزوج وأنجب ثلاثة أبناء، أكبرهم محمد الذى التحق بالأزهر، وعمل فى وزارة الأوقاف.
تزوج محمد وأنجب سبعة أبناء، وقدر للابن الثالث (يحيى) أن يلعب دورا مهما فى تاريخ الأدب العربى الحديث، حيث ولد فى حارة خلف ضريح "أم العواجز" وذاب فى الحارة المصرية، وكانت أمه شديدة التدين، تحفظ القرآن الكريم، وكان أبوه مفتونا بالمتنبي، وهكذا نشأ الابن بين أبوين مهتمين بالثقافة والفنون.
وإذا كان يحيى حقى قد بدأ تعليمه فى "الكتّاب"، فإنه التحق بمدرسة الحقوق وتخرج فيها ليعمل معاونا بالصعيد عام 1927، ما أتاح له أن يعايش الفلاحين والبسطاء، إلى أن قرأ إعلانا فى الصحف عن مسابقة لشغل وظيفة أمناء محفوظات فى القنصليات والمفوضيات عام 1929 وتقدم للامتحان ونجح، وعين فى القنصلية المصرية بجدة.
فيما بعد صدر قرار بنقله إلى تركيا، وعندما ترقى إلى وظيفة سكرتير ثالث للإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية، عاد إلى مصر، وتزوج وأنجب ابنته الوحيدة "نهى"، ثم انتقل للعمل فى روما وبعدها باريس عام 1949، وهناك التقى بزوجته الثانية الفرنسية "جان" التى لفتت نظره بلوحاتها وتزوجها عام 1954 ثم استقال من العمل بالخارجية المصرية.
عندما أنشئت مصلحة الفنون، عين مديرا لها، ثم نقل مستشارا لدار الكتب لأقل من عام، وسرعان ما قدم استقالته، وتولى بعد ذلك رئاسة تحرير مجلة "المجلة" منذ عام 1962 حتى عام 1970، وتعرف إلى نجيب محفوظ، عندما عمل مديرا لمصلحة الفنون، وكان محفوظ موظفا بها.
شكل يحيى حقى ظاهرة فريدة فى تاريخ الأدب العربى الحديث، بأسلوبه الذى يتسم بالاقتصاد والتركيز والتصوير، ومن خلال وصفه للحياة الحسية والطقوس الشعبية، وفى محاضرة ألقاها فى دمشق عام 1959 قال: "لن نصل إلى إنتاج أدب، نجد فيه أنفسنا أولا، أدب مقنع لنا، ثم يصلح ثانيا للترجمة والنقل، إلا إذا تخلصنا مما أحس به فى أساليبنا من عيبين كبيرين: الميوعة، والسطحية، لنعتنق بدلا منهما التحديد أو الحتمية والعمق، أما اشتراط صفة الصدق، فهو أمر مسلم به".
ترك لنا يحيى حقى ميراثا من القصص والروايات والنقد والمتابعات فى الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى والعمارة والتاريخ والحضارة، إضافة إلى ترجمته كتبا متنوعة، وفى عام 1993 نقل إلى المستشفى، بعد أن تدهورت صحته، وكان صديقه المحقق الكبير الشيخ محمود شاكر، آخر من زاره، قبل أن يسلم الروح فى هدوء.
"الأهرام العربي" تنشر هذا الملف عن "أنشودة البساطة" يحيى حقى فى زمن عز فيه إكبار القيم الثقافية الحقيقية، وعلا فيه الضجيج.
لقطات من حياة «المتواضع الكبير»!
أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتابا لم ينشر من قبل للناقد الراحل رجاء النقاش، بعنوان "يحيى حقى الفنان والإنسان والمحنة"، وكان الناقد الراحل قد جمع فصول هذا الكتاب، ووضعها بهذا الترتيب فى ملف خاص، تمهيدا لنشرها فى كتاب، لكن القدر لم يمهله لتقديم هذا الكتاب عن أديب كبير، تعرف إليه، منذ أن كان طالبا فى المدارس الثانوية، حين قرأ رواية "قنديل أم هاشم".
يكشف رجاء النقاش فى هذا الكتاب عن جوانب خفية وغير مطروقة للقارئ أو الناقد من قبل فى حياة الأديب الكبير يحيى حقي، على المستويين الإنسانى والأدبي، بل يعرض لمحنته السياسية، وترسم المقالات صورة دقيقة لمعنى يحيى حقى الأديب صاحب الأسلوب الساحر والعميق والبسيط فى آن، الذى استطاع أن يؤسس لنفسه لغة مصرية خالصة، استلهمها من حياة المصريين.
يكشف رجاء النقاش فى هذا الكتاب عن يحيى حقى شاعر قصيدة النثر، حيث كتب فى "قنديل أم هاشم" مجموعة من أناشيد تنتمى إلى قصيدة النثر، ومن يقرأ هذه النصوص، يتأكد من روح الشعر، التى كانت تحوم حوله، طيلة حياته، وفى كل أعماله.
يرسم الكتاب صورة ليحيى حقى الإنسان فى طفولته ونشأته، ثم أعماله الأدبية، بالإضافة إلى الجانب السياسى فى حياته، خصوصا المحنة التى مر بها حين هاجم محمود شاكر الرئيس جمال عبد الناصر فى حضور يحيى حقى والشيخ الباقوري، فتمت إقالة الباقورى من وزارة الأوقاف، ونقل يحيى حقى إلى دار الكتب فى وظيفة لا تناسبه أو تليق به.
يقول الراحل رجاء النقاش عن يحيى حقى إنه متواضع كبير، لو أخذته بالمظهر لتصورت أنه رجل بلا عبقرية ولا نبوغ، لكن المظهر خادع، ولا يدل على أعماق الرجل، وهى أعماق تغلى كالبركان بالفكر والفن، وهو محب للإنسان المجهول، متعاطف معه، قادر على فهمه، وهو يبحث عن الأشياء الأساسية فى الفن والحياة، ولا يهتم بالأشياء الثانوية، لذلك لم يدخل معارك أدبية، ولم يشتبك فى مناقشات حادة، وهو لا يهتم بالسياسة، وإنما يهتم بالحضارة، كما أنه مجدد أصيل، بمعنى أن التجديد عنده إضافة، وليس هدما وتدميرا.
كتابات مجهولة بتوقيع «بيب» و«شاكر فضله»
يواجه الباحث فى أعمال يحيى حقى مشكلة كبرى، اعترف بها هو نفسه، فقد كان كثيرا ما يوقع على مقالاته وكتاباته بأسماء مستعارة، فمرة يوقع باسم "بيب" أو "قصير" أو "عبد الرحمن بن حسن" أو عابر سبيل" أو "شاكر فضله" وعلى الباحث أن يلهث وراء هذه الأسماء فى العديد من الدوريات.
لكن لماذا هذه الرموز؟ يجيب يحيى حقى قائلا: "فعلت هذا لأننى كنت أؤمن فى تلك العهود بأن الكاتب يكفيه أن يقحم رأيه على قرائه، وأن يقحم نفسه عليه فوق البيعة، أو لعلى توهمت أن وراء التستر حرية تتيح لى أن أخوض كما أشاء فى سيرة أصدقائى، أو أنبش عش زنابير، دون أن يسيح دمها، سمها إن شئت تواضعا وحكمة أو جبنا وقلة وثوق فى النفس". يضيف «محمود على» فى كتابه "يحيى حقى الأعمال المجهولة والمنسية" إلى هذه الأسباب، أسبابا أخرى، منها أنه كان يخشى على نفسه من الاتهام بأنه "أصاب الأدب" وهى مهنة من لا مهنة له، وذلك على حساب مستقبله كمحامٍ، أو لم يسبق لمحمد حسين هيكل أن وقع روايته "زينب" باسم "فلاح مصري"؟ وربما كان هذا أحد دوافعه فى أن يسجل خواطره بعد أن صار للأديب مكانته فى المجتمع، خصوصا أن تجارب جيله من رواد القصة القصيرة لا نعرف عنها الكثير، بل إنه يتساءل عن معاصره "عيسى عبيد" فى كتاب "فجر القصة القصيرة" من هو؟ وما خبره؟ وما مصيره هو وشحاتة عبيد؟
كان عباس خضر يرى أن أعمال يحيى حقى المبكرة "تمثل طور بدء حائرا يحاول الكاتب فيه أن يعرف طريقه" والواقع أن بعضا من هذا الإنتاج المبكر بدأ يأخذ طريقه للنشر، على استحياء، وكان يحيى حقى قد اختار ثلاثا منها فى مجموعة "دماء وطين" وعلى هذا كما يقول أحد النقاد ستظل أى دراسة لتطور أدب يحيى حقى القصصى ناقصة، حتى تكون البدايات الحقيقية فى تناول الباحثين.
من هنا تأتى أهمية البحث عن الجذور، الكتابات الأولى التى شكلت جزءا مهما من مسيرة يحيى حقي، وسوف نجد أن تراثه ليس مقصورا على القصة القصيرة فقط، بل على المقالات والترجمات التى يكشف عنها محمود على فى هذا الكتاب لأول مرة، المنسى منها والمجهول، والتى ربما ضاعت من ذاكرة الكاتب الكبير نفسه.
أول هذه الأعمال المنسية رواية "العفريت" وهى رواية مترجمة، أنجزها يحيى حقى فى سن السابعة عشرة قبل التحاقه بمدرسة الحقوق يقول: "بدأت أكتب فى سن مبكرة حوالى السادسة عشرة، ومعظم تلك المرحلة تجارب ساذجة لم أعن بجمعها والاحتفاظ بها" ربما لهذا لم يذكرها ضمن بواكير أعماله الأدبية. تقول مقدمة "العفريت"، إنها مأخوذة عن الإنجليزية بقلم يحيى حقى ذات أربعة فصول وفى تعريفه بها: "ألف هذه الرواية الكاتب الإنجليزى بولر ليتون الطائر الصيت وطبعت لأول مرة عام 1859 ولا يزال كتاب الإنجليز يعتبرونها أعظم قصة كتبت عن العفاريت، لأن مؤلفها لم يكتب تخيلا، بل نتيجة أبحاث كثيرة قام بها بنفسه، وقد قال آرثر كونان دويل الكاتب المعروف إنها خير ما كتب عن العفاريت".
عنوان الرواية يعيد إلينا بعض ذكريات طفولة يحيى حقى نفسه عن حكايات العفاريت والست عزيزة، وما كانت تثيره فى نفسه من تساؤلات فلسفية وعلمية بعد ذلك، وفى مقالته "هذا العالم الخفى المجهول" المنشورة فى "كناسة الدكان" نراه يفصح عن هذه المخاوف والدهشة إزاء عالم الجن والعفاريت.
وكانت الصحافة تروج لهذا النوع من الكتابات، تلبية لرغبات القراء، فقد توقفت المجلة فى أحد أعدادها عن النشر، ثم عادت لتواصل نشر بقية قصة العفاريت وتعتذر للقراء، أكثر من هذا أن ذلك العالم المجهول عاود يحيى حقى ثانية عام 1926، بنشره فى صحيفة "الفجر" قصة "السخرية أو الرجل الأسود" معلنا أنه كتبها تحت تأثير قراءته لإدجار آلان بو الكاتب الأمريكى الشهير بهذا اللون.
مع نهاية العشرينيات من القرن الفائت كان يحيى حقى يشتغل بالمحاماة فى الإسكندرية، ونشر سلسلة مقالات "فى المحكمة" وهى المقالات الوحيدة آنذاك التى وقعها باسمه الحقيقى وهو يحيى حقى المحامي، وتمثل هذه المقالات خبراته الأولى كمحامٍ شاب، المحكمة بالنسبة له تختصر العالم، بما فيه من ضروب المنازعات واصطدام الأهواء المختلفة.
كيف عرف يحيى حقى طريقه إلى الصحافة لنشر سلسلة مقالاته فى المحكمة، يقول فى كتابه "خليها على الله": "كان من بين الخطط الإستراتيجية التى وضعتها بحنكة غير المجرب أن أراسل الصحيفة الوحيدة التى تصدر فى مدينة الإسكندرية وهى صحيفة وادى النيل".
تظل القصة القصيرة هى هوى يحيى حقى الأول، كما يعترف فى "كناسة الدكان" ويأتى إجمالى إنتاجه المنسى منها نقدا وتأليفا فى صورتين: الأولى وهى الغالبة تمثل القصة القصيرة، والثانية يضعها تحت عنوان فرعى "صور من حياة" كما فى "العسكري" و"الخزنة عليها حارس" وهناك أيضا عدد من القصص المنسية مثل "صور من حياة (حلقتين) عبد التواب السجان – نهاية الشيخ مصطفى – الوسائط يا فندم".
الزيارة الأخيرة
"فوق ما يزيد على 65 عاما استمر يحيى حقى (7 يناير 1905 – 19 ديسمبر 1992) مخلصا للكتابة فى كل شيء تقريبا، ذلك بحكم اتساع ثقافته وتنوعها وتعدد مصادرها" هكذا يبدأ سامى فريد – أحد تلاميذ يحيى حقى – كتابه الصادر بعنوان "على شواطئ يحيى حقي" ويرصد من خلاله مواقف عديدة، كشفت جوهر شخصية الكاتب الكبير، فقد ظل سامى فريد قريبا من حقى، لسنوات طويلة، منذ أن بدأ العمل معه سكرتيرا لتحرير مجلة "المجلة" إلى أن أغلقت عشر مجلات مصرية فى أعقاب نكسة 67 وتم تقليص عدد صفحات ما لم تطله يد الإغلاق.
كان يحيى حقى كاتب القصة القصيرة والرواية والمسرح والسينمائى والموسيقي، والناقد الذى تابع إبداعات مجايليه، وبشر بكتابات الشباب، ورعاهم على كل الأصعدة، وكان يكتب فى الفن التشكيلي، وفى مقالاته كان يعالج المشكلات الاجتماعية، بأسلوب رشيق، يميل إلى السخرية، لكنه لا يتخلى عن الرصانة أبدا، ولذا كانت كلمته تسلك طريقها من قلبه مباشرة إلى قلوب الآخرين من القراء.
بدأ يحيى حقى الكتابة فى مجلة "الفجر" ثم توالت كتاباته فى صحف ومجلات مثل "المساء – الهلال – التعاون" ومنذ هذا التاريخ، وهو لا يقف إلا فى صف "الغلابة" يدافع عنهم وينتصر لهم، لأنه قريب منهم، يحس بهم، وهذا ما دفعه لرفض عرض يوسف السباعى عليه، أن
يكتب مقالا أسبوعيا فى صحيفة "الأهرام" مع تحديد المقابل المادي، الذى يريده، كان عرضا سخيا، رفضه حقى بكل أريحية، دون ندم.
يرى سامى فريد أن حكايات يحيى حقى كثيرة، نقرأ منها جانبا فى هذا الكتاب، ورغم ذلك لم يستطع إنسان أن يصل إلى "شواطئ تلك القارة الفكرية والثقافية والأدبية والدبلوماسية الشمولية، التى أسميها أنا قارة يحيى حقي" كثيرة هى الكتابات عن يحيى حقي، لكن مردودها أو محصولها، أو قدرتها على الإحاطة بكل ما غمض، قليل، فيصبح يحيى حقى حتى الآن لم يكتشف بشكل كامل، ونصبح نحن فى حاجة شديدة إلى جهد جديد وجاد وعلمى وبحثي، لنعيد اكتشافه مرة أخرى.
فى هذا الكتاب ترى حقى الإنسان، العالم المتواضع، هامس الصوت، ويكتب سامى فريد عن القامات الكبيرة من كتاب مصر ومفكريها وعلمائها، كل فى ميدانه، حين كانوا يجلسون أمامه فى مقر "المجلة" فى مقاعد التلاميذ، أضف إلى هذا دفاعه الذى لم يتوقف عن أجيال الشباب من الأدباء والمثقفين والعلماء والشعراء، لأنهم كما رآهم كانوا هم المستقبل.
يعرض سامى فريد ليحيى حقى الإنسان الذى عاش بجواره 29 عاما، منذ أن التقى به فى ديسمبر 1963، حتى أغلقت "المجلة" خلال حرب الاستنزاف، التزاما بضغط النفقات وتقليل عدد الصفحات، وانتقال رئاسة تحريرها إلى عبد القادر القط، ولم تنقطع هذه العلاقة بينهما، واستمرت حتى اليوم الأخير، قبل دخول يحيى حقى المستشفى، ثم وفاته.
كان يحيى حقى يعانى فى صمت، فى آخر أيامه لم تكن لديه رغبة فى الأكل، يقول سامى فريد بعد آخر زيارة لحقي: "انصرفت وقد استولى على شعور غامض، أننى لن أراه مرة ثانية، وإن كان لا يزال معى إلى هذه اللحظة، أتطلع إلى صورته أمام كتبي، ولا أكتب حرفا إلا بعد استئذانه، فأعرف منه إن كان يوافق عليه أو يرفضه، أو يرى تعديله".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.