فى كل عام، وعندما تفوح روائح الحج فى مثل هذه الأيام، يسعى كثيرون إلى سماع أغنيات الحج، خصوصًا فى القرى التى تستعد فيها العائلات لرحلة أحد أبنائها للحج. ولعل أهم ما يحرص عليه الأهل فى هذه المناسبة شراء ألبومات أغنيات الحج، وتتصدرها دائمًا أغنية أم كلثوم "إلى عرفات الله "، وهى الأغنية التى تحصل فى مواقع اليوتيوب على أعلى نسب سماع ومشاهدة، بخاصة فى شهر الحج. ولهذه الأغنية ذكريات مهمة، أهمها أنها تذاع اليوم فى ذكرى ميلاد مؤلفها الشاعر الكبير أحمد شوقى الذى ولد بحي الحنفي بالقاهرة في 20 رجب 1287 ه الموافق 16 أكتوبر 1868 لأب شركسي وأم من أصول يونانية، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا، فبدأ الشعر يجري على لسانه. وقد تعرفت إليه أم كلثوم قبل أن تتغنى بأشعاره بسنوات طويلة، حيث رحل فى 13 ديسمبر عام 1932، ولم تكن أم كلثوم قد بدأت تفكر فى تقديم أغنيات له. وذكرت أم كلثوم أنها التقت شوقي في أواخر أيامه، وكانت أول مرة رأته فيها في كازينو "سولت" في شارع فؤاد القديم بجانب شيكوريل، وكان معه محمود فهمي النقراشي باشا والدكتور محجوب ثابت، وقد دعاها إلى الغناء في "كرمة ابن هانئ" بمنزله، وذهبت مع والدها وشقيقها وغنّت ليلتها كما لم تغن من قبل، ورأت شوقي يتمايل طربًا. وروت أم كلثوم أيضًا أن أحمد شوقي حضر ذات يوم إلى منزلها، و دخل عليها حاجب البيت فقال لها: "الحقي يا ست، شوقي بك أمام الباب الخارجي"، فهرولت إليه، ووجدت وجهه مضيئاً بابتسامة طيبة، ودفع إليها بمظروف قائلاً: هذه هدية متواضعة تعبّر عن إعجابي، إنها من وحيك، وفتحت المظروف لتجد قصيدة مطلعها: سلوا كئوس الطلى هل لامست فاها واستنجدوا الراح هل مسّت محياها لكن أم كلثوم لم تغن هذه القصيدة في حياة شوقي، بل غنتها بعد وفاته. وقد غنت أم كلثوم لشوقي عشر قصائد، منها "الملك بين يديك" في عام 1936، وبعد هذا التاريخ بعشر سنوات غنت: ولد الهدى، وقى الأرض شر مقاديره، ريم على القاع، سلوا قلبي، سلوا كؤوس الطلى، وفي عام 1949 غنت: من أي عهد في القرى تتدفق، ثم اختتمت هذه الرحلة مع أمير الشعراء في عام 1951 حين غنت قصيدة "إلى عرفات الله"، وصورتها للتليفزيون فى عام 1963. لقد اختتمت أم كلثوم أغنياتها من أشعار أحمد شوقى بأغنية "إلى عرفات الله"، التى يعتبر كثيرون أنها أجمل لوحة فنية تصور حالة الشوق لمن يتمنى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأداء فريضة الحج، بل إن كثيرين تذرف من أعينهم الدموع فى مقطع: "وقدمت أعذارى وذلى وخشيتى"، والمثير أنها صورت على طريقة الفيديو كليب رغم أنه لم يكن موجودا آنذاك، ووضعت حجابا على رأسها، وصورت بالأبيض والأسود، وهناك نسخة على اليوتيوب لمن يريد سماعها. وقد غنت أم كلثوم "إلى عرفات الله" عشرات المرات، إذ كانت تغنيها كل عام في وصلتها الأولى أو الثانية فى أيام الحج، وكانت تغنيها وهى فى حالة اشتياق إلى الأراضى المقدسة، ويبدو عليها التأثر لدرجة البكاء فى مقاطع كثيرة منها، وهى لم تحج، ولكنها أدت مناسك العمرة مرة واحدة. وغنت أم كلثوم "إلى عرفات الله" مرات على المسرح، ثم سجلتها ضمن أحداث فيلم "رابعة العدوية" الذى قدمته نبيلة عبيد. وكانت أم كلثوم كثيراً ما تغير في ترتيب الكلمات والأبيات.. فقد التزمت في قصيدة "سلوا قلبي" بالأبيات الستة الأولى وفق ترتيب شوقي، أما بقية ما غنته فقد اختارته عشوائياً وفق رغبة الملحن رياض السنباطي. وكتب أحد النقاد وهو مختار مقطرى أن أم كلثوم غيرت كثيرا فى الأغنية، فالقصيدة في الديوان مكونة من "42" بيتاً اختارت منها أم كلثوم "22" جمعت فيها بين ماهو ديني وماهو وطني، باعتبار أن هذه القصيدة حلقة من حلقات مشروع أم كلثوم في الأغنية الدينية الوطنية. وبقصائد شوقي الدينية تكون أم كلثوم قد ارتقت بالإنشاد الديني وحولته إلى أغنية دينية طربية بمصاحبة الموسيقى، علماً بأن الإنشاد الديني كان المرحلة الأولى في مشوارها الفني، وفي الأبيات التي اختارتها من هذه القصيدة غيرت أم كلثوم بعض الكلمات كعادتها في بعض القصائد لشوقي ولغيره من الشعراء، والتغييرات التي أجرتها أم كلثوم على بعض الكلمات في قصيدة "إلى عرفات الله" هى في مطلع القصيدة، فهناك بيت يقول: إلى عرفات الله "يا ابن محمدٍ" عليك سلام الله في عرفات. فأصبح البيت كما يلي: إلى عرفات الله "يا خير زائر" عليك سلام الله في عرفات وهو ما أكدته د.نعمات أحمد فؤاد، باعتباره يخرج بالقصيدة من مدح فرد بعينه إلى تحية كل زائر من المسلمين على السواء. والفرد هنا هو "الخديوي"، ممدوح شوقي، واللافت أن أم كلثوم غنت هذه القصيدة عام 1951 أي في فترة حكم الأسرة المالكة ذاتها التي ينتمي إليها الخديوي، وفى نسخة "الشوقيات" تم اعتماد هذا التغيير. أما التغيير الثاني فهو في بيت: أرى الناس "أصنافاً" ومن كل بقعةٍ فأصبح: أرى الناس "أفواجاً" والتغيير الثالث في هذا البيت: إذا زرت "يامولادي" قبر محمد فأصبح: إذا زرت "بعد البيت" قبر محمد والتغيير الرابع: وفاضت "مع" الدمع العيون مهابةً فأصبح: وفاضت "من" الدمع العيون مهابة.