في عالم الطب يُمثل التشخيص السليم نصف العلاج، ويختصر مسافات طويلة على المريض الذي قد تفرق معه الثانية ما بين الحياة والموت، والآن ما أحوجنا، أكثر من أي وقت مضى، لدراسات اجتماعية معمقة تسلط أضواءها وتعطي تفسيراتها للتحولات الجارية في المجتمع المصري، وتظهر قسماتها ومعالمها المزعجة بما نتابعه يوميًا من وقائع جرائم غير مألوفة، يتسم العديد منها بالقسوة والعنف المفرط، وتتعارض جملة وتفصيلا مع كل ما ألفنا ترديده بشكل آلي عن قيمنا الدينية والاجتماعية المثالية. هذه الجرائم على اختلافها وتنوعها ما بين قتل جائر، وحرق لممتلكات، واستقواء أرباب العضلات المفتولة على الضعفاء المغلوبين على أمرهم، والجنوح الشائع لارتكاب المخالفات، تعد مؤشرات لا يجب إغفالها ولا القفز فوقها، تبين ما يموج به المجتمع من تغييرات عاصفة تسترعي الانتباه والدراسة العميقة، لبيان الثغرات ومواضع الخلل لعلاجها، بغية الحد من الجريمة وجعلها في حدها الأدنى وبما لا يتجاوز الخطوط الحمراء التي تهدد استقرار المجتمع ورسوخ قواعده. ومهمة التشخيص ودق ناقوس الخطر بالأساس معلقة في رقبة طرفين، الأول العلماء والباحثون في القضايا الاجتماعية، فهؤلاء منوط بهم متابعة كل شاردة وواردة من حولهم وسبر أغوارها بدقة متناهية، ومن المؤسف أننا لا نعرف يقينًا مصير الدراسات الاجتماعية التي تبحث بعين ثاقبة الظواهر الشاذة والغريبة على مجتمعنا. ومما يزيد من الأسف أننا لا نعاني شحًا في الجهات المختصة بالدراسات الاجتماعية فعندنا مراكز بحثية مشهود لها بالكفاءة الفائقة، ويتصدرها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وتضم هذه المراكز بين جنباتها مجموعات وكوادر متميزة وواعدة من الباحثين والمتخصصين والدارسين، وإلى جوارهم الكليات المتخصصة وأقسام الاجتماع بكليات الآداب المنتشرة في جامعاتنا. السؤال الصعب والملح الذي يتعين طرحه يُدور حول ما إذا كانت تلك الدراسات تعرف طريقها للمعنيين بها، وإن عرفت هل يتم الالتفات إليها، والاستفادة منها بالشكل الأمثل لدى رسم وإعداد سياساتها، أم أنها تجري في أطر ضيقة للغاية، وتبقى حبيسة الأدراج ولا ترى النور، أو تناقش ضمن سياقات أكاديمية بحتة في ورش عمل وندوات ومؤتمرات متخصصة مغلقة، أو للحصول على درجات علمية للترقي؟ الأسئلة كثيرة واحتمالات إجاباتها أيضًا عديدة ومتشعبة فيما يتعلق بمصير الدراسات الاجتماعية ومآلاتها في ضوء ما نراه من جرائم تبذل الأجهزة الأمنية مجهودًا خارقًا في كشف ملابساتها وخلفياتها وتقديم الجناة للعدالة لنيل عقابهم المستحق وفقًا للقانون. وأفتح قوسين للإشارة إلى أن تعريف الجريمة ليس مقصورًا على الناحية الجنائية من قتل وسرقة وهتك عرض وبلطجة.. إلخ، لكنه شامل وينطبق حرفيًا على سلوكيات وعادات ذميمة وقبيحة هي في حقيقتها المجردة جريمة مؤثمة، ومنها التعدي على أراضي وأملاك الدولة، وخداع البسطاء بالاستيلاء على أموالهم بزعم توظيفها، وهنا فإن جزءًا من المسئولية يقع على عاتق المخدوعين، وتشمل كذلك البناء المخالف، ونشر فلسفة القبح وتشويه كل جمال يحيط بنا، والمستخفين والمشككين في كل إنجاز على أرضنا. وإن كانت الدراسات الاجتماعية تشكل الضلع الأول في معادلة فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية المقلقة، ودق جرس الإنذار، فإن الضلع الثاني فيها يمثله الإعلام الذي يفضل غالبيته الاستسهال والمعالجات السطحية للقضايا الاجتماعية. إعلامنا مهموم ومشغول أكثر بالتغطية الإخبارية الآنية، التي لا أقلل من جدواها وأهميتها للقارئ والمتابع للشأن العام، ولا يكترث بالقدر الكافي والمطلوب بالاستقصاء والمتابعة العميقة التي تحتاج إلى جهد وصبر ودقة وكفاءة لابد أن تتوافر فيمَن يقوم بها، حتى يعرف المتلقي الشغوف ما وراء الأحداث ودلالاتها ومخاطرها، وينمو وعيه ويتشكل بأسلوب يخدم المجتمع وما يجابهه من تحديات ومخاطر. خذ مثلا المعالجة الإعلامية لقضية الزيادة السكانية التي لا نكف عن الشكوى من آثارها السلبية وأخطارها الراهنة والمستقبلية، ستجد معظمها نمطية ومحفوظة عن ظهر قلب، كالحديث عن تأثيراتها على التنمية ووصول عائدها للمواطن العادي، وصحة الأم، وعدم قدرة الأب على رعايتهم وتعليمهم والمحافظة عليهم أصحاء وأقوياء. هل فكرت وسيلة إعلامية على سبيل المثال في القيام بمعايشة واقعية بين أسرة لا تعترف ولا تؤمن بتحديد النسل، لكي تنقل رؤيتها وأفكارها التي ستكون فيها إفادة عظمى في تشخيص وعلاج الظواهر الاجتماعية، فالمواطن يود رؤية مشكلاته وهمومه منعكسة بالشكل الصحيح في وسائل الإعلام، وذاك هو المفتاح السحري لاستعادة تأثير الصحافة ومكانتها، والمحافظة على مصداقيتها ومهنيتها. فالذين يُفكرون في مغادرة قطار النمطية يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومن يجازف بالتجديد لا يقدر على الاستمرار بسبب عوامل مثل الافتقار للتمويل اللازم، أو خوفًا من عواقب وردود الفعل على الغوص فيما وراء الحدث، أو لقلة المعلومات المتوافرة عن الموضوع محل الدراسة. الدراسات الاجتماعية والتطبيق العملي للنافع منها والمعالجات الإعلامية المهنية والسليمة بعدان كفيلان بتصحيح مسارات وسد ثقوب وثغرات، والمحافظة على تماسك المجتمع وتوازنه، ووقايته من شرور أمراض عديدة تتسبب في إضعاف جهاز مناعته وقدرته على المواجهة.