من يتأمل أحوال السياسة يجدها كالعلاقات العاطفية المتوحشة سريعة الالتهاب عميقة الغضب سريعة الرضا وكمن يقود سفينة الأمل فى الوصول إلى مواني تحقيق الأحلام.. أكتب ذلك وسط حالة صحية شديدة الارتباك فالألم الناتج عن أوجاع العظام يفوق الخيال البشري، لا يقلل منها سوى متابعة أحوال هذا الجو شديد الارتباك. ولأن العمر تعدى الثمانين بشهور فعلى امتداده تطل وجوه من علموني ومن أحببتهم ومن عاتبتهم ومن غضبت منهم ومن غضبت عليهم. لا أنسى يد الروائى الفذ فتحى غانم الذى رصد حياته لكشف أوجاع التطرف الذى يرسو دائمًا على موانى الإرهاب فهو أول من كشف خفايا وخبايا أجهزة المخابرات العالمية لتشكيل خبايا الشرق الأوسط الذى نحيا فيه. ورصد خطايا ثورة يوليو التى أحبها، ولكنه لم ينجح فى إصلاح مساراتها، ولن أنسى رحلة الصديق الأمين على أفكار 23 يوليو شعراوى جمعة وزير داخلية عبدالناصر الذى صعد من مرتبة أعظم رماة الأسلحة الصغيرة الى مرتبة تشكيل تنظيم الطريق إلى (التنظيم الطليعى) الذى تركزت فيه أحلام وآمال جمال عبد الناصر. ولكنى لا أنسى لحظة اختناق صوت شعراوى جمعة بالدموع عندما جاء من يخبره بأن عددًا لا بأس به من قيادات هذا التنظيم الطليعى قد تجمهروا فى ساحة مقر التنظيم صباح الحادى عشر من يونيو 1967 مطالبين بسحب استمارات عضويتهم، خوفا من أن تحصل أجهزة المخابرات العالمية على أسمائهم ووظائفهم، ولكن تصدى لهم ضابط المدفعية عدلى الشريف ليصرفهم بهدوء مزدحمًا بغيظ فهو العائد من ساعات قليلة من جبهة القتال التى انتصرت فيها إسرائيل. وكان كل تفكير العميد عدلى الشريف ينحصر فى ضرورة نجاح المهمة القتالية التى أرادها ضابط المخابرات العظيم اللواء محمد صادق الذى طالب أحد ضباط الصاعقة البحرية بأن يعبر قناة السويس ومعه مساعده المجند الشاب لكى يحصل من أرض سيناء على نوعية معينة من الأسلحة التى استخدمتها القوات الإسرائيلية. ونجح ضابط الصاعقة البحرية الشاب فى أن ينفذ التكليف الذى أمر به اللواء محمد صادق ولم يقتصر تنفيذ التكليف على هذا الأمر فقط؛ بل أضاف إليه عملية أسر ضابط المخابرات الإسرائيلية الذى صدفه على أرض سيناء. وأظن أن تلك كانت بداية تأسيس المجموعة القتالية من ضباط الصاعقة التى قادها البطل الذى لا نظير له إبراهيم الرفاعى. فى تلك الليلة أخبرنى صديق عمرى العميد عدلى الشريف بأن الحرب القادمة سيكون فيها النصر للمصريين، وقد تولى إعادة ترتيب القوات المسلحة اثنان من أرقى العقول فى الضبط والربط والعلم، الفريق محمد فوزى هذا المنضبط بغير حد ومعه عبد المنعم رياض هذا الذى ارتوى بكل علوم العصر العسكرية. وكان على الصديق شعراوى جمعة أن يلملم أشلاء التنظيم الطليعى ليستبقى فيه من يستحق حمل راية أفكار جمال عبد الناصر وليطرد منه الذين ظنوا أن التنظيم الطليعى هو سلم للوصول الى كنز السلطة والثروة. وكان على السيد سامى شرف مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات أن ينظم حركة المعلومات القادمة من كل أنحاء المعمورة فى سطور واضحة أمام عيون جمال عبد الناصر. دار كل ذلك بينما كان المستفيدون من قمة الفساد والارتباك فى القيادة من تجمهروا فى منزل من لم يحسن إدارة أموره وهو الراحل المشير عبد الحكيم عامر. لا أنسى أن التقيت فى ذلك الوقت مع المقاتل يوسف صبرى أبو طالب أحد أبناء دفعة 1948 والذى أراد شمس بدران وزير الحرب أن يستعيد بها مجده فى القوات المسلحة المصرية، ولكن المقاتلين العظام رفضوا الانصياع لدعوته، ولن أنسى كلمة يوسف صبرى أبو طالب نحن نتبع القيادة التى تمثل جوهر الأحلام مع طريق تنفيذها ولسنا عبيد إحسان أحد. ومرت أيام حرب الاستنزاف تحمل اختلاط دماء الشهداء برمال سيناء الى أن وصلنا الى لحظة العبور الشاهقة فى معناها وجوهرها ونتائجها. ولن أنسى لحظة افتتاح معرض الغنائم من الأسلحة الإسرائيلية التى حصلت عليها قواتنا بعد عبور قناة السويس، وكيف صعد ابنى الصغير فوق دبابة من الصناعة الأمريكية ليقول من فوقها عاش جيش مصر منتصرا. تمضى الأيام ليتوالى موج السياسة فيرفع من أسفل الى أعلى ببعض الوجوه التى آمن بعضها بحق المصريين بحياة لائقة وظن البعض الآخر منهم أن تلك هى فرصتهم لتحويل عظام الأحلام الى ثروات شخصية، فجاء (الانفتاح سداح مداح) كما وصفه استأذنا أحمد بهاء الدين وظهرت وجوه انتفخت بالثراء المنهوب من دم البسطاء ليصير أموالا مكدسة سارت لقمة صائغة أمام عيون فلاسفة النهب باسم الدين أبطال شركات توظيف الأموال، وتستمر سنوات يحاول فيها السادات استرداد كامل تراب سيناء من بين أنياب العدو المحتل. ظهر فى حياتى فى هذا الوقت صديق مازلت أشم عبير صدقه فى كل كلمة نطق بها وهو منصور حسن الذى اختارنى كواحد من فريقه وكان علينا أن ندخل بيت السادات فى المعمورة فى الاسكندرية لنشر اجتماعات الأمل فى الوصول لتنظيم سياسى قادر على تحريك المجتمع، ولكن على الطرف الآخر شياطين البحث عن الثروة وتقديم فروض الولاء والطاعة للقيادة السياسية، فيد تنهب والأخرى ترتفع بأداء التحية، ولم يستطع منصور حسن الانتصار على جحافل الطامعين فى الثروة والمناصب فتراجع ليقبع فى بيته بعد اغتيال أنور السادات. ولن أنسى صباح يوم اغتيال السادات حيث جلسنا مجموعة من الأصدقاء فى منزل منصور حسن وابتسمنا من سخرية القدر، وقد كان الكرسى الذى كان سوف يجلس عليه منصور حسن فى ذلك الاحتفال هو الكرسى الذى جاور الرئيس السادات الذى نالته كثير من رصاصات الاغتيال قال منصور حسن يومها رأينا كل ذلك المشهد فى عيون مصطفى مشهور أحد القادة السريين للتنظيمات المسلحة التى تأسست بواسطة الإخوان. ومضت مصر تحت قيادة حسنى مبارك تملك الحلم الذى يتم تكسيره تباعا بواسطة مجانين الثروة والنهب فتفجرت من بين أيدينا ينابيع الصرخات من فقدوا أموالهم فى شركات توظيف الأموال، ولنعترف لحسنى مبارك حين أوكل أمر تحرير طابا بخلاصة رجال الخارجية العظام تحت قيادة نبيل العربى واستطعنا انتزاع طابا من أنياب الاحتلال الإسرائيلي. مضت الأيام بمرارة العلقم تبيع لنا الحلم الذى ينكسر كهشاشة لا نظير لها الى أن انفجر الصوت الشاب فى يناير 2011 وليسرقها منهم الإخوان، وليلقى المصريون بنصوص المتأسلمين من فوق أكتاف الوطن، ولتمضى أيامنا لنعيد فيها بناء كل شىء من نقطة الصفر الحالم ومكانة لكل مصرى على أرض المحروسة. تلك هى ملامح قصة الحب الساخن الذى يحمل كراهية عميقة لأى فساد أو نهب لأحلام الواقع والحلم.