على الرغم من خيال مستحيل التحقق على أرض الواقع؛ إلا أنه احتل خيالى من لحظة اختراق سن من الصلب عظام فخذى كى يسحب د. ياسر النحاس بضعة من نخاع عظامى ليحللها كى ترى والدته د. وفاء الميتناوى «هل فى هذا النخاع خلل ينتج خلايا سرطانية أم انه نخاع طيب لم يلمسه خلل التوحش المرعب»؟ وكان وجه د. وفاء يحمل عطر الفيض الأنثوى المبتسم بفن صيانة الحياة، لتقول: «بالعين المجردة يمكن ان اقول لك مبروك؛ فهذا نخاع طيب؛ سندرسه بدقة تحاليل اخرى كى نقول لك ان الانيميا التى تشكو منها هى حالة طارئة لن تعكر عليك حياتك؛ فقط عليك ان تقوم بالمسح الذرى على كل الجسد لنتأكد من خلو كامل أجهزة الجسد من أى ورم خفى». ............................ ولأن من أوصى بالتعامل مع وفاء الميتناوى هو سيد دراسة أمرض الدم فى مصر المحروسة د. حسام كامل؛ هذا الذى شرفت جامعة القاهرة بقيادته؛ قبل الخامس والعشرين من يناير؛ ولم تجد من يتفوق عليه بحسن الإدارة فاختاره مجتمع أساتذة الكليات ليقودها بعد ذلك لسنوات. وإذا كان للتواضع كبرياء فنظرة الرجل للحياة مشربة بوعى عميق بأن العلم يتطلب جهدا متواصلا للتخفيف من آلام البشر، ولأن العشرات يمرون تحت عيونه عندما يفترسهم الوحش غير الرحيم؛ لذلك يحاول بالبحث العلمى وبكل ما تحت السماء من بحث وتجديد؛ حاول تقديم الرعاية بحنان حازم ودقيق؛ قال لى الكشف الذرى على كامل الجسد قد يكشف لنا سبب الانيميا الحادة التى تعانى منها. وصار على أن أذهب إلى واحدة من كبريات المستشفيات؛ كى أنام على سرير يدخل بى فى أنبوبة طويلة بعض الشيء لتخرج أشعة من كل جوانب الأنبوبة؛ إشعاعات ذرية تكشف تفاصيل كل خلية فى جسدى. أخذت أبتسم للموقف متسائلا هل ستكشف الخلايا عن موقع قبلة الحب الاولى فى المركب النيلى بالقناطر الخيرية؟ وهل ستستعيد الحنان المتوحش الذى دارت أحداثه ووقائعه تحت برج إيفيل؟ وهل ستحكى أيام الحزن الصاخب بعد قرارنا المشترك بأن قصة حبنا لن تستمر؟ اتفاقنا على ان يعلن كل منا أن شريك التجربة قد مل الإنتظار وأنى لن أستطيع الحياة فى وظيفة زوج الأستاذة الجامعية فى باريس؛ وهى لن تضحى بمكانة أستاذية الجامعة الباريسية كى تحيا زوجة لكاتب يتراوح مستقبله على نيران تقلبات إدارة الصحف؛ خصوصا وقد عاشت أياما من التوتر الزاعق عندما شاء أحد رؤساء المؤسسة التى أعمل بها إعادة تقييم كل العاملين، وإحتفظ بجانبه بواحد من أصحاب موهبة الدس المسموم؛ وهو ابن عم طبيب وحدة صحية احترف بيع الدواء المجانى وفرض رسم كشف على أى فلاح يأتى للوحدة المجمعة؛ واشترك مع مأذون القرية على أن يبيع شهادات تسنين البنات ليعقد قرانهن قبل الخامسة عشرة وأذاع بواسطة عمدة القرية على أن الشاب المتزوج فى عمر السادسة عشرة سينال الإعفاء من التجنيد. وعندما كتبت تحقيقا صحفيا عن هذه الجريمة المستمرة تم التحقيق وعقاب كل من شارك فيها لكنى لم أكن أعلم أن الطبيب هو ابن خال محترف الدس بمؤسستنا. وطالبنى محترف الدس بأن أكذب نفسى كى يتم إنقاذ قريبه؛ فرفضت وكانت النتيجة مسلسل دس سام وبطئ إلى أن وصل الأمر لوزارة الداخلية خصوصا وأنى نشرت مشاركة ضابط النقطة لكل من الطبيب والمأذون فى استنزاف أهل القرية؛ خصوصا وأنها قرية ميلاد ابى. وأحيلت الشكوى التى قدمها ضدى كل من الطبيب وضابط النقطة لوزير داخلية ذلك الوقت؛ فقال الوزير بهدوء «هذا صحفى مشاغب، ولو أحلنا طلب التحقيق للنيابة فلابد أن معه من المستندات ما يؤكد صحة ما كتب. ونصح الوزير مدير العلاقات العامة أن يتصل بى ليدعونى مع الضابط والطبيب ومأذون القرية لفنجان قهوة وأن نشرب تلك القهوة مع الوزير شخصيا», وحملت مستنداتى ذاهبا لمكتب شعراوى جمعة الذى استقبلنى بالترحيب والاحضان، فاندهش الجميع من حرارة استقبال شعراوى جمعة لى فقال بصوت واضح قائلا «إن ثبت كذب جملة واحدة مما كتبه هذا الصحفى سأعتقله؛ وإن كانتت كلماته صادقة فلسوف أطلب من كل الجهات المشرفة على كبار تلك القرية أن يتضاعف عقاب كل من ثبت عليه وقائع ماكتبه هذا الصحفى. عندئذ إنهار الطبيب والمأذون وعمدة القرية وأقروا بجرائمهم. وتم فصل الطبيب المتاجر فى أدوية الفقراء واللص الفارض لمبلغ ثلاثة جنيهات على أى مريض يدخل الوحدة المجمعة. وطبعا قبلت استقالة الطبيب من وزارة الصحة لأفاجأ به بعد ذلك بعشر سنوات وهو يدخل إمتحان معادلة الشهادة المصرية بحق ممارسة الطب فى نيويورك بلا طائل؛ وقد تم فصله من العمل كمندوب ترويج ادوية إحدى شركات إنتاج الدواء بعد أن شكاه عدد من الاطباء المكلف بزيارتهم لانه يريد أسبقية فى لقاء الطبيب المشغول أساسا بمرضاه. ويعيش على عائد عمل زوجته كبائعة فى أشهر محلات مستحضرات التجميل وتعود كل ليلة لتلعن اليوم الذى قبلت فيه الإرتباط به.. طبعا هو لا يعلم لماذا ارتقيت فى عملى وأشاع بين أصدقائى فى نيويورك بأنى من أنصار الناصرية؛ وأن وزير داخلية جمال عبدالناصر صديق شخصى لى وأنى السبب فى استقالته من العمل فى وزارة الصحة المصرية. وطبعا لم أخفى عن أحد وقائع صداقتى مع شعراوى جمعة تلك التى بدأت بدعوة من زميل دراسة لى قابلنى بالصدفة؛ ودعانى لزيارة السويس لمتابعة حركة محافظها شعراوى جمعة لمناقشة الميثاق الوطنى. وعندما ذهبت وجدت الاديب الطيب الراحل عباس خضر على منصة الكلام يطالب وزارة التعليم بان تنشر مسرحيات شكسبير بين الطلبة لتعلمهم الاخلاق؛ سمعت شخصا إسمه جمال ربيع وهو يتساءل «لماذا لانطلب من الشاعر أحمد رامى إعادة كتابة الميثاق كأغان تؤديها أم كلثوم. هنا طلبت الكلمة لأسأل محافظ السويس شعراوى جمعة عن عدد العاطلين عن العمل بالمحافظة الصغيرة العدد، وأن يتفق مع هيئة قناة السويس كى تفتح الورش التى تملكها بالسويس لتدرب العاطلين لمهن نحتاجها؛ خصوصا ونحن نبنى السد العالى كما أننا نخوض حربا فى اليمن؛ هنا طلب شعراوى جمعة أن نلتقى فى صباح اليوم التالى. وعند اللقاء فى الصباح استقبلنى قائلا «أوافقك على أن الناس لا تأكل كلمات الميثاق التى طالب بعضهم بأن نغنيها؛ وأوافق على فكرة فتح ورش هيئة قناة السويس لتدريب العاطلين مع محو اميتهم. وتحدث أثناء جلوسنا معا مع المهندس محمود يونس أول مسئول مصرى يدير قناة السويس وحصل شعراوى جمعة على موافقته لتدريب العاطلين. وكانت فرحتى فوق التصور وانا أكتب كل ذلك لتنشره روز اليوسف؛ فقرر الشاعر صلاح عبد الصبور ان يدعونى للغداء لانى اقنعت محافظا ما على التصرف العملى. وبينما ونحن متجهان لمقهى ريش للغداء التقينا الكاتب الكبير محمد عودة الذى استقلنى متسائلا عن بقية مبلغ الاربعين جنيه التى تعود محافط السويس ان يهبها لكل صحفى يزور السويس؛ فاختنقت بالغيظ والرغبة فى البكاء؛ فقال صلاح عبد الصبور « ياعودة انت لا تعرف خامة هذا الشاب كما أن المحافظ الذى تعود رشوة الصحفيين تم نقله من السويس وحل مكانه نائب مدير المخابرات شعراوى جمعة الذى تمت ترقيته لمنصب المحافظ؛ فاعتذر الكاتب محمد عودة لى، وأصر أن نتناول الغداء على حسابه. ولم أكن أعلم ان جمال عبد الناصر قرأ ما كتبته وكيف طبق شعراوى جمعة اقتراحاتى. وهكذا نشأت صداقة بينى وبين شعراوى جمعة؛ ومتابعة شهرية للقاء دون كتابة عن تجربته اللهم إذا كان هناك ما يستحق. وعندما تولى منصب وزير دولة لرئاسة الجمهورية؛ سألنى عن أهم أحلامى فقلت «انتهاء وجود قواتنا فى اليمن، فأخذ يشرح لى أهمية حراسة مداخل البحر الاحمر. وفجأة جاءت فكرة التنظيم الطليعى الذى أسسه جمال عبد الناصر. وكان أول من كان مسئولا عنه هو السيد أحمد فؤاد والذى قيل إنه المدنى الوحيد فى تنظيم الضباط الأحرار؛ وكان يطبع منشورات التنظيم؛ ثم رأس مجلس إدارة بنك مصر. وطبعا كان هناك ترشيح شعراوى جمعة لى كى أجند فى هذا التنظيم، لكنى ببساطة قلت لشعراوى جمعة « أنا مؤمن بسياسات عبد الناصر لكنى لا أستطيع الالتزام بأى تنظيم لأن حياتى فوضوية؛ أقرأ وأكتب وأسهر وأنام ولا أطيق البعد ولو للحظة عن حياتى العاطفية؛حياتى منطلقة؛ أقرأ وأكتب وأسهر وأنام ولا أطيق إلا القيد العاطفى مع من أحب؛ وأعيش اسير فكرة تقول إن خريطة مستقبل أى رجل توجد فى قدرته على قراءة ملامح مستقبله فى عيون النساء اللاتى إلتقط خياله رسائل نموه منذ أن كان نطفة فى ظهر أبيه مسافرة إلى بويضة فى رحم امه ليبدأ رحلته كجنين يخرج إلى الحياة بعد الإكتمال ليولد كطفل يقتحم حواجز من الصعاب، تهدهده يدا أمه أو يدا أبيه؛ فتدور عيونه لتسجل فى كل ثانية كل ما يتحرك حوله من حياة؛ بداية من لفتة أمه له لحظة بكائه ومرورا بشغف والده لأنه أنجب من سيواصل حمل سيرته لمن سيأتى من بعده، مرورا بالمشاعر السلبية أو الإيجابية التى تحملها والدته لعائلة أبيه؛ أومشاعر الدفء التى تغمر قلب الأم تجاه احد اقاربها؛ هذا الذى تكون قد حلمت به كحبيب لكن قلبه التقط رسالة من امرأة أخرى وارتبط بها. وتمرق أيام العمر لتكون كل خلية فى المخ مخزنا لخبرات ومشاعر جمعتها من تجاربك، فانت تحب مدرستك فى روضة الأطفال؛ ثم تضيف لها صورة جارتك التى بدت أكثر حنانا عليك؛ ثم بنت الجيران وزميلة الجامعة. وما ينطبق على الشاب ينطبق أيضا على البنت. فصورة الأب تضيء لتضاف لها صورة ابن الجيران إلى نجم السينما إلى المدرس الرقيق إلى زميل الجامعة الذى اصر على التقرب إليها؛ إلى الشاب الذى تجرأ بالقفز فوق اسوار فاصلة بينه وبينها لتسمع منه كلمة «أحبك» ولا مفر من الخوف من السير فى نفق العدم المتواصل فيولد الاغتراب الذى يقول عنه أبوحيان التوحيدى المتصوف الجليل « الغريب هو من غربت شمس جماله». ولم يكمل التوحيدى ما كان يجب أن يقوله من أن من يغرب عنه حق الاختيار ويعيش أسير الصدف إنما يصبح بطلا للحدوتة القديمة التى تحكى عن كائن بشرى، لم يتعلم كيف يتدرب على اختيار كل شيء فى حياته، فظل يتدحرج،وكأنه كرة من الثلج تلتقط المزيد من الثلج الذى يزداد ويزداد معه انتفاخ من لا يختار، ومن لا يحفظ فى نفسه حق المعرفة. وعندما تم سجن شعراوى جمعة فيما سماه السادات ثورة التصحيح أيقنت ان السادات قد اضمر الإستقالة من صناعة العدل الإجتماعى الذى بدأه جمال عبد الناصر. وعندما تم الإفراج عن صديقى شعراوى جمعة كنت من أوائل من زاره فى بيته قائلا «وصفكم السادات بأنكم مراكز قوة؛ متناسيا انه عاش لسنوات وهو مختبئ فى مركز ضعف إختاره لنفسه كى يرث عبد الناصر. ضحك شعراوى جمعة ولم يعلق». وزرته مرات عديدة اهمها كانت مع وجيه اباظة الذى عمل محافظا للبحيرة ثم الغربية ثم القاهرة. وكانت الزيارة بغرض ان يستأذن وجيه اباظة كما وسطه السيد منصور حسن وذلك كى اعمل مستشارا فى مكتب منصور حسن صاحب الفكرة القائلة «أنت ضد توحش الرأسمالية ومع العدل الإجتماعى لماذا لا تكون معى حارسا لفكرك؟ وطلب من وجيه اباظة استئذان شعراوى جمعة لأنى لا أطيق أن أكون فردا فى قطيع السادات رغم قناعتى ببراعته فى الاختفاء بين عيدان ذرة الواقع كى يقتنص ما يريد». ...................... توهمت للحظة أن خلايا الجسد التى تكشف عليها الإشعاعات الذرية فتحكى كل شىء. ضحكت لنفسى قائلا: انا دائم الحكى لكل ماجرى فى قصة السير على صراط العشق المستقيم. لمزيد من مقالات منير عامر