أحمد عبدالمعطي حجازي حدثتكم فى مقالة الأسبوع الماضى عن دراسة باللغة العربية أبحث عنها تؤرخ للإسلام كما رآه الأوروبيون منذ اتصلوا به فى القرن الثامن الميلادى الأول الهجرى إلى اليوم، وكما فهموه وتابعوا مسيرته وتحدثوا عنه. أبحث عن هذه الدراسة لأرى إلى أين وصل الأوروبيون فى تعرفهم علينا، وكيف بدأوا، وكيف انتهوا، وما الذى أدركوه، وماالذى لم يدركوه؟ وإلى أى حد استطاعوا أن يتخلصوا من تأثير الماضى الذى كانوا فيه خصوما للإسلام يقفون له بالمرصاد، وأن يتجردوا من أهوائهم وأطماعهم ويكونوا معه موضوعيين ينظرون للمستقبل الذى يفتح ذراعيه لكل الأمم ولكل الثقافات وكل الديانات، بدلا من أن يفرض كل منا ماضيه على الحاضر والمستقبل. والسؤال باختصار : هل تعلم الأوروبيون من تجاربهم السابقة وانتقلوا بالفعل إلى عصور جديدة يحتكمون فيها للعقل، والحرية، والإخاء، والمساواة، والعدالة، والسلام وغيرها من الشعارات التى يرفعونها؟ والجواب ليس سهلا، لأن السؤال ليس مطروحا على الأوروبيين وحدهم، وإنما هومطروح عليهم وعلينا فى وقت واحد. نسألهم عن الإسلام كيف رأوه؟ ونسأل أنفسنا عن الإسلام كيف فهمناه، وكيف قدمناه؟ هل فهمنا أن العقل هو الأصل الأول من أصول الإسلام؟ وأن العقل مقدم على ظاهر النص إذا تعارضا؟ وأن تقديم العقل تسليم بالحرية، لأن العقل لا يعمل إلا إذا كان حرا وأن الطريق إلى الحق هو النظر فى قوانين الطبيعة وتجارب البشر وعبر التاريخ، وأن السلطة الدينية لا وجود لها فى الإسلام، وإنما يرجع الإنسان لعقله ويستفتى قلبه وإن أفتوه وأفتوه، وإذا كان الدين فى الإسلام أختياراً حراً فالسياسة من باب أولى اختيار حر، وإذا كانت الحياة البشرية سعيا متصلا لقضاء الحاجات وبلوغ الغايات فالحياة البشرية حركة دائبة وتطور متصل يطرح علينا السؤال تلو السؤال، وعلينا أن نجتهد فى الإجابة، فالإسلام اجتهاد دائم لا ينغلق له باب. وإذا كان الإسلام عقلاً، وحرية، وعلما، وعملا، وتقدما، واجتهادا فالإسلام ليس بعيدا عن الحضارة الغربية، والحضارة الغربية ليست بعيدة عن الإسلام الذى لم يكن فى ماضيه لأمة واحدة أو لثقافة واحدة. ومن المؤسف أن نقرأ لمثقفين أوروبيين وغربيين كلاما يتحدثون فيه عن ثقافات آرية وثقافات سامية، وعن رسالة ينسبونها «للرجل الأبيض»، ويقولون إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا كما كان يفعل «شاعر الاستعمار الإنجليزى» روديارد كبلنج! ونحن ننظر فى الحضارة الغربية فنراها تكذيبا صريحا لكلام كبلنج وكلام هانوتو وكلام هنتنجتون. ننظر فيها فنرى تراث اليونان وتراث الرومان ونرى فيهما المسيحية واليهودية وقد تحولت هذه العناصر الأربعة الشرقيةوالغربية، الآرية والسامية إلى حضارة واحدة. وكذلك نقول عن الحضارة العربية الإسلامية التى جمعت فى ماضيها وحاضرها الساميين والحاميين والآريين وأسهمت فيها الشعوب التى دخلت فى الإسلام بنصيب وافر. الفرس، والهنود، والسريان، واليونان، والمصريون، والأمازيغ، والإسبان الذين أسلموا وتعربوا وأضافوا ما لديهم إلى ما حمله العرب لهم، فظهرت هذه الثقافة التى اتسعت وتعددت مجالاتها وتعمقت وأصبحت دينا، ولغة، وشعرا، ونثرا، وعلما، وفلسفة، وحوارا بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، المسيحيين، واليهود، والمجوس، والبوذيين. ونحن نعجب حين نجد فى هذه الثقافة العربية الإسلامية كتاب زرادشت «أفستا»، وكتاب البيرونى «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة». ونحن نعجب مرة أخرى حين نرى أن هؤلاء الذين أسلموا وتعربوا على أيدى الفاتحين العرب لم يلبثوا أن أصبحوا، ليس فقط شركاء فى هذه الثقافة الجامعة، وإنما صاروا أئمة فيها يتبعهم أصحابها الأصليون. فى الفقه نجد الإمام أبا حنيفة النعمان. وهو فارسى. ولد فى العام الثمانين للهجرة بعد حوالى نصف قرن من فتح العرب المسلمين لبلاده، ومن المعروف أن أبا حنيفة عاصر عددا من صحابة الرسول صلى لله عليه وسلم أى أنه تعرب وأسلم واستطاع أن يتمكن من علوم اللغة والإسلام التى كانت لاتزال فى نشأتها الأولى ليحتل مكانه الرفيع فيها. ومعنى هذا أن كل ما كان حوله كان يرحب به ويشجعه ويدفعه ليحقق ما حققه. والذى يقال عن الإمام الفارسى أبى حنيفة يقال عن الإمام المصرى الليث بن سعد الذى كان معاصراً لأبى حنيفة ولمالك بن أنس. وللإمام الشافعى كلمة عنه يقول فيها: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به». والذى يقال عن هؤلاء يقال عن الفقيه الأندلسى ابن يحيى وأصله من قبيلة مغربية أمازيغية كانت تعيش فى إسبانيا. ولعلها شاركت فى فتحها. والدور الريادى الذى أداه فى الفقه هؤلاء الداخلون الجدد فى الإسلام أدوه أيضا فى العلوم الأخرى. سيبويه فى النحو، وابن قتيبة فى التاريخ. بل أدوه أيضا فى فنون الأدب التى لا يكفى فيها أن نتعلم اللغة، بل نحتاج لأن نهضمها ونتشرب روحها ونحولها إلى أحاسيس وخواطر ومشاعر. وبهذا استطاع بشار بن برد، وأبو نواس الفارسيان، وابن الرومى اليونانى، وأبو عطاء السندى أن يحتلوا أماكنهم فى الشعر العربى. ومثلهم الأندلسيون الذى ابتدعوا فى هذا الفن شكلا جديدا لم يكن فيه وهو الموشح. كما استطاع عبد الحميد بن يحيى الفارسى أن يؤسس فى الأدب العربى فن النثر. ويقول عنه أحمد حسن الزيات فى كتابه «تاريخ الأدب العربى» «كانت الكتابة قبل عبد الحميد حديثا مكتوبا لا ترجع إلى نظام، ولا تحور إلى فن، ولا تعد فى الصناعات الشريفة، فلما تقلدها كانت الحال داعية والنفوس مهيأة إلى فن من الكتابة جديد». والذى يقال عن عبد الحميد يقال عن عبد الله بن المقفع. وأنا هنا لا أخاطب الأوروبيين أو الغربيين وحدهم، وإنما أخاطب المسلمين أيضا أو أخاطبهم أولا. أكلم نفسى. أقول إن الغربيين لا يعرفون الإسلام مما نقوله عن الإسلام، وإنما يعرفونه مما نفعله!