إيران ... حين تلطم فرحاً زياد بن عبدالله الدريس استمتعت الأسبوع الماضي بحضور فعاليات الأيام الثقافية الإيرانية في مقر منظمة اليونسكو بباريس. أثبتت تلك المعارض والأمسيات الثقافية والفنية، بثرائها وتنوعها وتعددية مصادرها وجذورها، أن إيران ليست صورة نمطية واحدة ومحدودة كما قد يظن الغرب... بل وبعض العرب! لكن هناك حقيقة مربكة، موجزها أن إيران ليست مجرد دولة إسلامية، لم تكن قبل الإسلام شيئاً مذكوراً. بل كانت قبل مجيء الإسلام مهد الحضارة الفارسية بكل ما لها وما عليها من فصول أساسية في مجلد تاريخ البشرية. هل هذه الحقيقة مربكة للمراقب العربي أو الغربي، أكثر مما هي مربكة للإيراني المسلم.. أو لنقل الآن: الفارسي المسلم؟! هنا ينتثر كثير من الأسئلة المكرسة لحالة الإرباك: - هل إيران دولة فارسية أم دولة إسلامية بالدرجة الأولى؟ - حسناً، هل يمكن الجمع بينهما من دون تناقض؟ سنستحضر هنا معركة القادسية، نموذجاً، كيف يتعاطى الدارس الإيراني معها وهي تتحدث عن المواجهة بين جيوش المسلمين وجيوش الفرس؟ - هل استطاع الإيراني أن يضع فاصلاً بين ما قبل وما بعد الإسلام؟ قد يقال بأن هذه الحال مماثلة لوضعية العربي المسلم. بينما الفارق كبير بين الحالتين، فالعربي يعد نفسه وعاء الإسلام، وهذا ما جعل العرب ينسفون أو يحجّمون على الأقل كل ما قبل الإسلام بمفردة واحدة فقط فعلت فعلتها في الهوية العربية ما قبل الإسلام، تلك هي «الجاهلية»! أصبح العربي لا يجد صفحة يعتز بها في مجلد تاريخ البشرية فيما قبل باب الإسلام، رغم أن الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلّم) قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ما الذي حدث؟ ارتضى العربي الذوبان كلياً في هوية الإسلام، فأصبح العربي يعني المسلم.. هكذا ببساطة. ولذا تكررت المشاهد الكوميدية للعرب غير المسلمين، حتى اليوم، إذ كيف يكون الإنسان عربياً وهو غير مسلم؟ (حكايات الكاتب نقولا زيادة لا تُنسى هنا). الحالة التي يمكن مقارنتها ومقاربتها للحالة الإيرانية هي الحالة المصرية. فالأقباط في مصر لديهم التاريخ والحضارة الفرعونية قبل مجيء الإسلام، والرموز الفرعونية ما زالت هي الملاذ للثقافة والسياحة المصرية. ما الذي حدث هنا؟ الشعب المصري/ القبطي أسلم وتعرّب في ذات الوقت خلافاً للشعب الفارسي الذي أسلم ولم يتعرّب. هل كان عمرو بن العاص أقوى نفوذاً وتأثيراً من سعد بن أبي وقاص؟ أم أن الشعب الفارسي كان أكثر تمسكاً بفارسيته من تمسك المصري بقبطيته؟ المدهش أن الشعب المصري المسلم الآن، القبطي الفرعوني سابقاً، هو من أكثر الشعوب الإسلامية تديناً وتمسكاً بالطقوس الاسلامية، في غياب واضح للطقوس الفرعونية عن ساحة الممارسة المجتمعية، لا ساحة الاستذكار والتنقيب عن الآثار! رغم أن أصواتاً مصرية خافتة بدأت تتعالى الآن بالتساؤل: هل نحن أبناء حضارة عربية أم حضارة فرعونية؟ في إيران.. الحال مختلفة، والازدواجية قائمة، والتساؤلات المربكة تظهر وتختفي. في تلك الفعاليات الثقافية كانت التسمية الفارسية للفنون والمناشط تتداخل مع الروح الإسلامية. في أحد فولكلورات الحفل الختامي كان هناك تداخل واضح بين الايماءات الزرادشتية وطقوس اللطم الشيعي. صورة مصغرة للتنافس «الحميم» بين أكبر عيدين «طقسين» إيرانيين (عيد النيروز) و( يوم عاشوراء)، إنها ثنائية الفارسية / الإسلامية في أجلى صورها. وقد تجلّت أكثر ما تكون تلك الحالة الازدواجية المربكة قبل قرابة خمس سنوات عندما صادف، حسب التقويم الإيراني، يوم عيد النيروز في يوم عاشوراء. اجتمع عيدا الفرح (بالنيروز) والحزن (بمقتل الحسين) في ذات الوقت.. فكيف تلطم فرحاً؟! وقد تصدت مجموعة من علماء إيران باستصدار فتاوى توفيقية لحل ذلك الاشكال الميثولوجي! نموذج مربك آخر، عندما هاجم الرئيس أحمدي نجاد، الإسلامي المتمسك، ومجموعة من علماء الحوزات في إيران، الفيلم الهوليوودي (300) الذي تناول فصلاً من فصول القتال الفارسي الإغريقي قبل مجيء الإسلام بأكثر من ألف عام. كان الموقف المتشنج للحكومة الإيرانية (الإسلامية) تجاه فيلم يتحدث عن الحقبة الفارسية الوثنية أمراً مربكاً بحق، إلى درجة إثارة سؤال، ربما يكون استفزازياً، إذ كيف سيكون موقف المشاهد الإيراني أمام شاشة سينما تعرض سعد بن أبي وقاص وكسرى وجهاً لوجه في فيلم عن معركة القادسية؟! إيران لديها ورقتان رابحتان: فارس والإسلام. وهي تستطيع توزيع اللعب بهاتين الورقتين في المكان والزمان المناسبين. فهي مثلاً قد لا تكون ورقتها الرابحة في مواجهة العرب هي الإسلام، إذ أنها لا يمكن أن تزايد على العرب بالإسلام، لكنها قد تزايد عليهم بالحضارة والعنفوان والجبروت الفارسي. أما ورقتها الرابحة أمام الغرب فهي الإسلام، إذ بهذه تستطيع أن تكسب تعاطف ودعم الشعوب العربية والإسلامية معها. إيران تنافس الغرب براية الإسلام.. والعرب بالشكيمة الفارسية. لكن العرب إزاء ورقتي اللعب الإيراني لا يعرفون هل هم يواجهون مدّ التشيّع أم زحف التفرّس؟! مهما يكن من أمر، فإيران دولة عظيمة وثرية ومؤثرة، سواءً استخدمت هذه الورقة أو تلك. ليس صعباً أن تلعب مع إيران، الأصعب أن تعرف بأي الأوراق ستلعب هي معك! عن صحيفة الحياة 2/7/2008