فى تاريخنا وحاضرنا.. أيام وأسماء وأحداث وإيجابيات وإنجازات وأبطال وبطولات لا تُنسى ولا يجب أن تُنسى.. ومسئولية الإعلام أن يبعدها عن النسيان ويبقيها فى دائرة الضوء.. يقينًا لنا.. بأن الأبناء من نفس جينات الآباء.. قادرون على صناعة الإعجازات.. ويستحيل أن يفرطوا فى حق الوطن.. مهما تكن التضحيات. يوم 14 أكتوبر 1973 هو ما بدأت به كلامى الأسبوع الماضى.. موضحًا ما حدث فى هذا اليوم الذى شهد قرار استئناف القتال.. والذى كان أيضًا بداية المرحلة الثانية من حرب أكتوبر. بنهاية أعمال قتال هذا اليوم انتقلت مباشرة إلى 22 أكتوبر وقرار وقف النيران الذى أصدره مجلس الأمن.. ودهسه العدو ولم يلتزم به.. وأمل كبير يراوده فى تحقيق ما يحلم به.. ليواجه زلزال 6 أكتوبر!. يريد أن يحقق على الأرض انتصارًا ينهى به الحرب ويملى به على المصريين إرادته.. إرادة المنتصر وخضوع المهزوم!. تركت ما حدث بعد 14 أكتوبر وذهبت مباشرة إلى يومى 23 و24 أكتوبر.. لأن العدو رهن حلم عمره عليهما!. حلم عمره هو احتلال السويس.. وقطع خطوط إمداد المياه الموجودة فى السويس.. عن الجيش الثالث الموجود فى سيناء.. وبالطبع القطع ليس فقط فى المياه إنما فى كل الشئون الإدارية وفى الإمداد بالذخيرة وفى أمور كثيرة.. احتلال السويس معناه.. حصار مطبق على الجيش الثالث.. وانتصار ساحق باحتلال السويس فى غرب القناة.. وعودة الهيبة إلى الجيش الذى لا يقهر وانقهر فى الأيام الثمانية الأولى للحرب.. والأهم من كل هذا وذاك.. عودة الروح للعدو.. بعودة القدرة على فرض إرادته فى أن يملى شروطه!. زهو العدو بإحداث ثغرة ما بين الجيشين للوصول إلى غرب القناة أمر أطار عقله وضاعف قناعته التامة بأنه لا قوة بإمكانها إيقافه.. وعلى هذا الأساس ذهب للسويس ليحتلها وينهى أمر هذه الحرب.. وما إن فعل!. أترك الإجابة للجنرال جونين قائد جبهة العدو مع مصر وقوله: كنا نعتقد أن احتلال السويس.. سيكون خير نهاية للحرب.. لكن سرعان ما تبين لنا أنها كانت أسوأ ختام للحرب!. بعد هذا التوضيح المهم لأهم أوقات الحرب الذى حققنا فيه انتصارًا واضحًا قلب كل موازين مرحلة الحرب الثانية لصالحنا.. أعود ثانية إلى نهاية أعمال قتال 14 أكتوبر.. وإلى المتوقع من العدو فى 15 أكتوبر.. وقبل الدخول فى التفاصيل.. لابد من وقفة لنتعرف على أهم متغير حدث.. ألا وهو قرار أمريكا فتح ترسانة أسلحتها للعدو وتنفيذ جسر جوى للإمداد وآخر بحرى.. وتأثير ذلك على أيام القتال ابتداء من 15 أكتوبر!. ما حدث أطرحه على حضراتكم من خلال هذه النقاط: (1) الحروب الحديثة.. تفرض على الجيوش المتحاربة معدلات استهلاك كبيرة فى الذخائر والمعدات.. وبالتالى هذه الجيوش فى حاجة إلى إمدادات لا تتوقف من الأسلحة والذخائر والعتاد.. وهذه الإمدادات ليست متروكة للمصادفة.. إنما كل دولة لها حليف من دولة واحدة أو عدة دول.. وهذا الحليف هو المورد الرئيسى من قبل الحرب وهو الضمانة الوحيدة للإمداد خلال الحرب وبعد الحرب!. أيام حرب الخليج الأولى (8 سنوات) بين العراق وإيران، الدول العربية كانت الحليف بالنسبة للعراق وإسرائيل هى الحليف المورد والممد بالسلاح والذخائر والعتاد لإيران!. فى حرب أكتوبر مصر وسوريا اعتمادهما الرئيسى على الاتحاد السوفييتى مع دول من الكتلة الشرقية وبعض الدول العربية. إسرائيل تعتمد تمامًا على أمريكا التى ترسانة أسلحتها مفتوحة ليل نهار لإسرائيل.. إلى جانب بعض الدول الغربية الأخرى. (2) لا وجه للمقارنة بين علاقة إسرائيل مع أمريكا وعلاقة مصر والاتحاد السوفييتى!. إسرائيل من غير ليه.. متوافر لها على الدوام مخزون استراتيجى ضخم من الأحدث فى العتاد والسلاح والذخائر!. أمر مثل هذا معناه.. أى خسائر فى المعدات وأى استهلاك فى الذخائر فى المعارك.. يتم استعواضه بعد انتهاء أى معركة مباشرة.. بحيث لن يأتى يوم قتال آخر.. إلا وكل الخسائر تم استعواضها!. الوضع مختلف جذريًا بالنسبة لجيش مصر.. ولا أريد أن أتوقف عند هذه النقطة كثيرًا.. لأن إسرائيل خارج كل الاشتراطات والقيود والتنازلات التى يفرضها أى حليف!. ومصر كانت ومازالت بعيدة كل البعد عن أى استقطاب تتبعه تنازلات.. مثل قبول القواعد العسكرية على أرضها!. الاتحاد السوفييتى كحليف لنا.. هو حليف لحدود لا تؤثر على سياسة الوفاق مع أمريكا كأكبر قوتين فى العالم.. وأيضًا!. هو حليف لنا.. بما لا يهدد بقاء الدولة الصهيونية!. (3) هناك وفاق بين القوتين الأعظم وقتها.. وأيضًا هناك عداء وهناك حرب باردة وهناك تنافس رهيب فى كل المجالات.. أذكر منها الرياضة.. وكيف أن الاتحاد السوفييتى تركيزه هائل فى مجال البطولات الرياضية.. وهو الأول فى الدورات الأوليمبية أكبر حدث رياضى عالمى بحصوله على أكبر عدد من الميداليات فى عدد كبير من اللعبات.. وليس هذا نتاج شعب يمارس الرياضة.. إنما لسياسة التركيز بإخضاع النشء الصغير لاختبارات رياضية منها يتعرفون على المواهب.. لتبدأ مراحل إعداد فى معسكرات مغلقة ميزانيتها مفتوحة.. خاضعة لأقصى درجات السرية.. فى نوعية التدريبات ونوعية المكملات الغذائية ووقتها لم تكن هناك عقوبات على المنشطات.. والسوفييت كانوا أساتذة فى اختراع كل ما يساعد الأبطال.. فى النشاط وفى بناء العضلات وفى رفع معدلات اللياقة البدنية!. التنافس هائل بين القوتين.. وفى حرب أكتوبر.. التنافس موجود.. مفتوح فى جهة وفى أخرى محدود!. الاتحاد السوفييتى يهمه جدًا استمرار انتصار السلاح السوفييتى.. وأمريكا لا تريد للسلاح السوفييتى أن ينتصر فى النهاية.. والأهم أنها لن تسمح مطلقًا بأى هزيمة لإسرائيل تعصف بكيانها!. جسور إمداد الاتحاد السوفييتى لمصر.. لم يكن تعويضاً لذخائرنا وسلاحنا.. إنما سرعة تنفيذ عقود سابقة!. أمريكا جسرها لضمان تفوق إسرائيل كمًا وكيفًا فى عتادها وسلاحها وذخائرها!. الاتحاد السوفييتى جسر إمداده.. أغلب ما فيه أصناف متعاقدون عليها.. لكننا لسنا فى حاجة إليها!. الذى نحن فى أشد الحاجة له تأخرت أصنافه!. أمريكا من غير إسرائيل ما تطلب.. ترسل أحدث الموجود فى ترسانة أسلحتها والأهم!. العتاد بالأطقم البشرية المحترفة المتطوعة!. يعنى الطيارة بطياريها والصواريخ المضادة للدبابات بأطقمها ونفس الحال للدبابات.. يعنى السلاح شغال وفعال بمجرد وصول الجسر الجوى للمطارات!. نتكلم عن طائرات فانتوم وهليكوبتر (CH-53) ودبابات (M-60) والأحدث فى أنواع الحرب الإلكترونية!. (4) الجسر الجوى السوفييتى.. أول عن آخر 15 ألف طن.. مناصفة ما بين مصر وسوريا!. السبعة آلاف و500 طن معدات لمصر.. أغلبها ذخائر ووسائل دفاع جوى.. أما سوريا فكانت ذخائر ودبابات ووسائل دفاع جوى.. الجسر البحرى السوفييتى إلى مصر وسوريا نحو 63 ألف طن شملت دبابات ومركبات ومعدات استمر هذا الجسر إلى ما بعد انتهاء الحرب.. وكان المجهود الرئيسى لهذا الجسر تجاه سوريا لاستعواض ما فقدته. (5) الجسر الجوى الأمريكى لإسرائيل بلغ 28 ألف طن عتاد وذخائر وطائرات ودبابات.. أمريكا خصصت 228 طائرة نقل.. هذا الجسر الجوى استمر لمدة 33 يومًا بداية من 13 أكتوبر وحتى 14 نوفمبر.. تكلفة النقل فى هذا الجسر الجوى بلغت مليارى دولار!. أما الجسر البحرى الأمريكى لإسرائيل.. فقد بدأ عقب الجسر الجوى بقليل.. والهدف منه تعويض خسائر إسرائيل فى الحرب وبلغ قرابة ال34 ألف طن.. وأول سفينة وصلت إسرائيل فى 2 نوفمبر 1973 وتحمل دبابات وطائرات ومدافع. تعالوا حضراتكم نقارن ما بين المرحلة الأولى للحرب (6-13 أكتوبر) والمرحلة الثانية للحرب خاصة أيام 14 و15 و16 و17 أكتوبر!. من 6 إلى 13 أكتوبر.. جيش مصر يتقدم والعدو يتقهقر.. جيش مصر يسقط ويحتل كل مواقع العدو بمواجهة 175 كيلومترًا وعمق من 12 إلى 16 كيلومترًا شرق القناة!. انتصار ساحق لجيش مصر الذى اقتحم المانع الأصعب واخترق الساتر الترابى الأعلى واحتل خط الدفاع الأقوى فى العالم!. الجسر الجوى الأمريكى بدأ يوم 13 أكتوبر.. وفى هذا اليوم هبطت الطائرات الأمريكية فى مطارات سيناء مباشرة.. ليكون المدد القادم فى متناول القوات فى اللحظة والتو للمشاركة فى معارك الغد 14 أكتوبر!. ملاحظة: يوم 14 أكتوبر الذى استأنفت مصر فيه القتال.. قواتنا أسرت دبابات فى معارك هذا اليوم.. عداداتها لم تصل ال200 كيلومتر.. يعنى المسافة من مطار العريش إلى مسرح العمليات مع التحركات التى قامت بها هذه الدبابات إلى أن انضربت وأسرناها!. الملاحظة الأهم.. لو أن هذه الدبابات حضرت بدون أطقمها البشرية التى تستخدمها.. يستحيل أن تدخل المعركة فى اليوم التالى!. هذه الدبابات وصلت بالأطقم التى تعمل عليها من متطوعين أو مرتزقة أو أى مسمى.. المهم أنه كان معها البشر الذين يستخدمونها.. والذين هبطوا بها من الطائرات التى أقلتها من أمريكا!. قولاً واحدًا المرحلة الثانية من الحرب.. نحارب فيها العدو وصديقه!. نحارب أسرع تعويض لخسائر عرفتها حرب.. وإيه.. التعويض دبابات وطائرات بالأطقم والطيارين!. وقت حاربنا العدو بمفرده.. حصل له ما حصل فى الأيام الثمانية الأولى من الحرب!. وقت تدخلت أمريكا وعوضت العدو خلال أيام عن خسائره المادية فى الدبابات والطائرات.. والأهم.. عن خسائره البشرية بالمرتزقة المحترفين أطقم الدبابات وأطقم الصواريخ المضادة للدبابات والطيارين مع الطائرات.. وضح تأثير الإمداد فى سير المعارك!. من 14 أكتوبر الدعم المطلق الأمريكى للعدو.. اتخذ مسارًا متطورًا.. لأن العتاد وحده لن يكفى!. لابد من الدعم البشرى بالمحترفين المتخصصين.. وليس مهمًا إن كانوا مرتزقة أو متطوعين الأهم أن يحاربوا فى الجيش الإسرائيلى!. طبيعى أن يظهر تأثير الجسر الجوى الأمريكى على المعارك التى دارت خلال الأيام من 14 حتى 17 أكتوبر.. التى انتهت أغلبها لمصلحة العدو.. إلا أن!. انتصاراته لم تمكنه من تغيير الأوضاع أو فرض إرادته.. بل إنها قادته دون أن يدرى لأن يدخل بنفسه وكامل إرادته إلى أكبر فخ صنعه بنفسه لنفسه اسمه الثغرة!. الثغرة هذه لم تكن نتيجة غير متوقعة للمعارك من 14 حتى 17 أكتوبر.. إنما هى خطة موجودة لدى العدو من زمن وضعها على افتراضات عفا عليها الزمن.. افتراضات استخلصها من حرب 1967 ودباباته التى اخترقت سيناء وقتها فى ساعات بلا مقاومة.. وقناعته التى لازمته بقدرته على اختراق أى دفاعات فى سيناء والوصول إلى القناة!. العدو بعد ثمانية أيام حرب من 6 حتى 13 أكتوبر.. يواجه روحًا معنوية فى الحضيض بعدما اكتشف أن حدوتة الجيش الذى لا يهزم وَهْمٌ أطلقه وصدقه إلى أن فاجأه جيش مصر يوم 6 أكتوبر وحطم له كل ما اعتقد أنها ثوابت يستحيل الاقتراب منها!. العدو كانت قناعته تامة بأن التهور الذى أقدم عليه جيش مصر يوم 6 أكتوبر.. سيدفع ثمنه غاليًا يوم 8 أكتوبر أى يوم الهجوم المضاد الذى ستعيش فيه مصر حزينة للأبد.. لأن العدو سيخترق سيناء بالطول ويتحرك فى غرب القناة بالعرض ويحتل الإسماعيليةوالسويس.. ووقتها على المصريين السمع والطاعة!. العدو.. صدمة عمره الحقيقية كانت يوم 8 أكتوبر.. الذى أطلق هو عليه اسم الاثنين الحزين!. نعم الاثنين الحزين.. لأنه اليوم الذى عرف فيه العدو الحقيقة كاملة.. جيش مصر انتصر.. والجيش الإسرائيلى فشل فى الهجوم المضاد وخسر أكبر عدد من الدبابات فى معركة واحدة.. وأنه يواجه للمرة الأولى فى تاريخه حربًا بجد!. خلاصة الثمانية أيام حرب.. العدو على الجبهة السورية حقق ما يرضيه.. لكنه على الجبهة المصرية يواجه عار الهزيمة.. الذى بدا واضحًا فى موقفين.. كلاهما له دلالته: الموقف الأول.. خلال زيارة رئيس دولة إسرائيل لمركز العمليات واجتمع بالقادة العسكريين الذين فوجئوا بقوله لهم: عليكم أن تدفعوا ثمن غروركم.. ولا أعرف كيف ستواجهون شعب إسرائيل بعد الذى حدث!. الموقف الثانى عبرت عنه رئيسة وزراء إسرائيل فى حديثها مع الرئيس الأمريكى نيكسون وهى تستعجل الإمدادات العسكرية لإنقاذ إسرائيل وقولها له: لا أعرف كيف سأواجه عائلات القتلى الكثيرين فى الحرب؟. رسميًا وعسكريًا مطلوب عمل عسكرى يكون له تأثير شعبوى!. يستحيل قبول فكرة.. جيش إسرائيل انهزم!. مطلوب عمل عسكرى على الأرض.. يؤكد أن الجيش الذى لا يقهر انتصر!. كل هذه العوامل جعلتهم يفكرون فى إحياء خطة قديمة وضعها شارون وطور بارليف اسمها: «أبيراى هاليف» أو القلب الشجاع.. ولها أربعة أهداف: الأول: تغيير كل موازين القوى القائمة فى 13 أكتوبر.. باختراق دفاعات جيش مصر والوصول إلى غرب القناة.. واحتلال الإسماعيليةوالسويس ومن ثم قطع كل خطوط إمداد الجيشين وإطباق الحصار عليهما. الثانى: على ضوء الوجود العسكرى الإسرائيلى فى غرب القناة ونشاطه فى الغرب.. جيش مصر سيضطر لترك الشرق والعودة إلى الغرب.. وبذلك عادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل حرب أكتوبر.. مع تغيير جديد.. هو وجود قوات إسرائيلية فى الغرب!. الثالث: التخلص من حائط الصواريخ المصرى الموجودة قواعده غرب القناة.. وبذلك تعود السيادة الجوية للطيران الإسرائيلى!. الرابع: على ضوء ما حدث وتم.. تعود لعقول وقلوب الشعب الإسرائيلى.. صورة الجيش الذى لا يقهر.. ويعرف العالم يقينًا أن ما حدث فى الأيام الثمانية الأولى للحرب حدث عابر راح إلى حال سبيله.. والموجود الآن فى الشرق.. الجيش الذى لا يقهر!. طيب ماذا حدث؟ هدف واحد للعدو هو الذى تحقق.. إحداث ثغرة والوصول إلى الغرب.. وما إن وصل.. عرف حجم الكارثة الذى صنعها بنفسه لنفسه!. وللحديث بقية ما دام في العمر بقية