د. محمد عثمان الخشت من أسف أنه فى الوقت الذى انتصر فيه الوحى على خرافات وأساطير الأولين، قد عادت تلك الخرافات والأساطير مرة أخرى متسللة عبر كتب العقائد والتفاسير والتواريخ وغيرها، تحت زعم قداسة أقوال بعض البشر. ومن أسف أصبحت تلك المرويات بمثابة العدسات الملونة التى ينظر منها البعض إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة، وقام بعض الوضاعين بنسبة مجموعة منها إلى النبى صلى الله عليه وسلم زورا وبهتانا! ومن هنا، فإن من أركان البلاء فى الخطاب الدينى التقليدي، تقديس كلمات تصدر عن شخصيات بشرية تخطئ وتصيب لمجرد انتمائها لفرقة دينية أو زعمها لامتلاك علم الأولين. ولا شك فى أن هذا انحراف عن الطريق إلى الدين الخالص، ولا شك أيضا أن من يزعم هذا يُخلِّط بعيدا عن وحى الواحد الأحد فى كتابه المبين. وهذا النوع من التقديس المزيف منتشر فى بعض ربوعنا، ويقتات منه جمع غفير من زعماء القداسة الفارغة، وتقع فى براثنه قطاعات من الناس بحسن نية دون أن تدرى أنها بذلك تعرض نقاء إيمانها للخطر. ولو كان بالإمكان تحكيم العقل النقدى والوحى الإلهى النقي، لدخل كثير من مدعى القداسة والحديث باسم الله مستشفيات الأمراض العقلية لكى يخضعوا إلى بروتوكولات العلاج من أنواع الهلاوس التى يعانون منها. ومن أسف فإن المعتزلة الذين يرفعون راية المعقول والأشاعرة الذين يرفعون راية المعقول والمنقول يتوسعون فى الاستدلالات والاستنتاجات فى الأمور الغيبية، ويزيد الأشاعرة على المعتزلة فى الاستدلال بالمرويات النقلية الموضوعة والضعيفة ومنها مجرد أقوال لأشخاص ليس لهم مصدر من الوحى الإلهى أو السنة المتواترة. هذا على الرغم من أنهم يرفعون شعارا أنهم لا يأخذون فى العقائد إلا بالمتواتر. وما هو إلا شعار، أما الواقع والممارسة فشيء آخر؛ حيث تجد كتبهم عامرة بمرويات ليس لها سند من الوحى الإلهى الذى يملك الله وحده فيه مفاتيح الغيب. ومن الأدلة على ذلك أن الأشاعرة وكثيرا من الفرق التى فرّقت دينها، يستدلون بأقوال وهب بن منبه فى كتبهم وكأنهم يعدونه مصدرا من مصادر معرفة الغيبيات، ومن المعروف أن وهب بن منبه «34 ه - 110 ه» يستقى معلوماته ورواياته من الإسرائيليات القديمة وأساطير الأولين وحكايات العرب الخرافية قبل الإسلام، وهنا الإشكالية الكبرى: كيف يسقط تلك المرويات على تفسير العقائد الإسلامية ؟ والإشكالية الأكبر: كيف يعده علماء كبار مصدرا من مصادر المعرفة بالغيبيات لمجرد أنه روى حكاية من الحكايات؟ ولماذا نجد اسمه ورواياته تتكرر كثيرا فى كتب العقائد والتفاسير. ولا يحسبن القارئ الكريم أن هذه المرويات الأسطورية عابرة، بل إنها متكررة فى كتب الخطاب الدينى التقليدى ولا تزال تسيطر على عقول قطاعات كبيرة من المسلمين! ومن أسف فقد نقل عن وهب بن منبه كثير من العلماء الكبار مثل: ابن إسحاق، وابن قتيبة، والطبري، والمقدسي، وابن كثير، والغزالي، والثعلبي، وغيرهم. وهذا مأخذ عليهم، لكننا لا ننكر فضلهم فى جوانب أخرى، ولا نحكم عليهم حكما واحدا أبيض أو أسود، فكل منا يصيب ويخطئ، وهم هنا أخطأوا منهجيا فى اعتبار حكايات ومرويات وهب بن منبه سندا من أسانيد معرفة الغيبيات، ومصدرا من مصادر معرفة تفصيلات عقائدية، ومرجعا من مراجع تفسير الوحي. ومن الأمثلة على ذلك، نذكر موضوعا من الموضوعات التى يتحدثون عنها فى كتبهم المتناقلة عبر القرون ولا تزال تُطبع حتى الآن، ويذكرون فيها مرويات خرافية عن وهب بن منبه بوصفها حقائق! وذلك الموضوع أفرد له الشبلى فى كتابه «آكام المرجان» الْبَاب الثَّامِن وَالثَّلَاثُينَ عن «تحمل الْجِنّ الْعلم عَن الْإِنْس وفتواهم للإنس»! وطبعا يذكر السند! :«قَالَ أَبُو بكر الْقرشِي، حَدثنِى عِيسَى بن عبيد الله التَّمِيمِي، حَدثنَا أَبُو ادريس، حَدثنِى أبى عَن وهب بن مُنَبّه، قَالَ: كَانَ يلتقى هُوَ وَالْحسن الْبَصْرِيّ فِى الْمَوْسِم كل عَام فِى مَسْجِد الْخيف، إِذا هدأت الرجل ونامت الْعين، ومعهما جلاس لَهما يتحدثون، فَبينا هما ذَات لَيْلَة يتحدثان مَعَ جلسائهما إِذْ أقبل طَائِر لَهُ حفيف حَتَّى وَقع إِلَى جَانب وهب فِى الْحلقَة، فَسلم، فَرد وهب عَلَيْهِ السَّلَام وَعلم أَنه من الْجِنّ، ثمَّ أقبل عَلَيْهِ يحدثه فَقَالَ وهب: من الرجل؟ قَالَ: رجل من الْجِنّ من مسلميهم. قَالَ وهب: فَمَا حَاجَتك؟ قَالَ: أَو يُنكر علينا أَن نجالسكم ونحمل عَنْكُم الْعلم إِن لكم فِينَا رُوَاة كَثِيرَة وَأَنا لنحضركم فِى أشياء كَثِيرَة من صَلَاة وَجِهَاد وعيادة مَرِيض وَشَهَادَة جَنَازَة وَحج وَعمرَة وَغير ذَلِك ونحمل عَنْكُم الْعلم ونسمع مِنْكُم الْقُرْآن. قَالَ لَهُ وهب: فَأَى رُوَاة الْجِنّ عنْدكُمْ أفضل؟ قَالَ: رُوَاة هَذَا الشَّيْخ، وأشار إِلَى الْحسن، فَلَمَّا رأى الْحسن وهبا وَقد شغل عَنهُ قَالَ: يَا أَبَا عبد الله من تحدث؟ قَالَ: بعض جلسائنا. فَلَمَّا قاما من مجلسهما سَأَلَ الْحسن وهبا فَأخْبرهُ وهب خبر الجنى وَكَيف فضل رُوَاة الْحسن على غَيره، قَالَ الْحسن: يَا وهب أَقْسَمت عَلَيْك أَن لَا تذكر هَذَا الحَدِيث لأحد فَإِنِّى لَا آمن أَن ينزله النَّاس على غير مَا جَاءَ، قَالَ وهب: فَكنت ألْقى ذَلِك الجنى فِى المواسم فِى كل عَام فيسألنى فَأخْبرهُ، وَلَقَد لَقيته عَاما فِى الطّواف فَلَمَّا قضينا طوافنا قعدت أَنا وَهُوَ فِى نَاحيَة الْمَسْجِد، فَقلت: لَهُ ناولنى يدك فَمد يَده إِلَيّ فَإِذا هِيَ مثل برثن الهر وَإِذا عَلَيْهَا وبر، ثمَّ مددت يَدى حَتَّى بلغت مَنْكِبه فَإِذا مرجع جنَاح، قَالَ: فأغمز يَده غمزة ثمَّ تحدثنا سَاعَة ثمَّ قَالَ لي: يَا أَبَا عبد الله ناولنى يدك كَمَا ناولتك يَدي، قَالَ : فأقسم بِاللَّه لقد غمز يَدى غمزة حِين ناولتها إِيَّاه حَتَّى كَاد يصيحنى وَضحك. قَالَ وهب: وَكنت ألْقى ذَلِك الجنى فِى كل عَام فِى المواسم ثمَّ فقدته فَظَنَنْت أَنه مَاتَ أَو قتل. قَالَ: وَسَأَلَ وهب الجني: أَى جهادكم أفضل؟ قَالَ: جِهَاد بَعْضنَا بَعْضًا». ويذكر السيوطى الأشعرى فى كتابه «لقط المرجان» متابعا الشبلى خرافة أخرى تصنف فى طبقات الهلاوس البصرية والسمعية، «قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن بن شكر، حَدثنَا مُحَمَّد بن عِيسَى الجندي، حَدثنَا صَامت بن معاد، عَن عبد الرَّحْمَن بن يحيى، عَن أَبِيه يحيى بن ثَابت، قَالَ: كنت مَعَ حَفْص الطَّائِفِى بمنى، فَإِذا شيخ أَبيض الرَّأْس واللحية يُفْتى النَّاس، فَقَالَ لى حَفْص: يَا أَبَا أيوب، أَتَرَى هَذَا الشَّيْخ الَّذِى يُفْتى النَّاس هُوَ عفريت؟ قَالَ: فَدَنَا مِنْهُ حَفْص وَأَنا مَعَه، فَلَمَّا نظرت إِلَى حَفْص وضع يَده على نَعْلَيْه، ثمَّ اشْتَدَّ وَتَبعهُ الْقَوْم وَجعل يَقُول: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه عفريت«! وسوف تستمر هذه الخرافات المضحكة وغيرها فى الحديث عن الغيبيات طالما استمر الخطاب الدينى البشرى الرجعى البعيد عن الوحى الأصلي، وسوف تستمر الضلالات والهلاوس طالما يتمترس أصحاب القداسة المزعومة وراء خطاب تراثى تقليدى مملوء بالغث والثمين، وتجاور فيه الأسطورةُ العلمَ!. نقلا عن صحيفة الأهرام