د. محمد عثمان الخشت من أهم مقاصدنا في تأسيس خطاب ديني جديد هو الرجوع في العقائد إلى الوحي في نقائه الأول « القرآن الكريم والسنة المتواترة يقينية الثبوت»، فلا يعقل أن يأخذ المرء عقائده من حكايات ومرويات بشرية وأحاديث ظنية الثبوت أو ظنية المعنى التي يعج بها الخطاب الديني التقليدي، وتسيطر على قطاعات من المسلمين سواء من العامة أو من رافعي رايات الدفاع عن القديم كله دون تمييز، وكأن كل ما هو قديم مقدس! وكأن كل ما يُكتب في صفحات كتب التراث البشرية له القداسة نفسها التي يتمتع بها الوحي في الكتاب المبين!. والغريب أن هناك من يزعم أنه لا يأخذ من السنة النبوية إلا بالمتواتر ثابت اليقين في الثبوت، لكنه عمليا يخالف ذلك في كتبه وأقواله، حيث يبني جانبا واسعا من عقائده على مرويات ضعيفة أو ظنية الثبوت، بل إنه يأخذ بعض عقائده في الغيبيات من مرويات ليس مرجعها إلى الوحي بل هي مجرد حكايات يرويها بشر عن بشر. ويزعمون أن ما يقولونه مقدس مع أنه ليس وحيا ثابتا في الكتاب والسنة المتواترة. ونستمر في ضرب الأمثلة على نوعية تلك العقائد التي يحملونها عن الغيبيات وفي قلبها مزاعمهم عن الجن والشياطين، والتي يوردها كتاب «آكام المرجان في أحكام الجان» لمحمد بن عبد الله الشبلي الدمشقيّ الحنفي، أبي عبد الله، بدر الدين ابن تقي الدين «المتوفى: 769ه»، والذي لخصه السيوطي الأشعري في كتاب «لقط المرجان في أحكام الجان» وعلى الرغم من أن الشبلي الحنفي والسيوطي الأشعري لا يعرفان طبيعة أجسام الهوام التي تقطن منزلهما، فإنهما يعرفان طبيعة أجسام الجن والشياطين بالتفصيل، ويعرف ذلك مثلهما كل رافعي رايات الخرافة المقدسة والحقيقة المطلقة! ويخصص الشبلي الباب الرابع من كتابه لذلك، أما السيوطي فيدمج الحديث عن أجسام الجن ضمن حديثه عن موضوعات أخرى يتناول فيها الأصل الذي خُلقوا منه وطبيعة أشكالهم وتشكلهم. ويدخل التيار الأشعري مع التيار المعتزلي في عراك حول تحديد طبيعة أجسام الجن، وكأن الاثنين اطلعا على هذا العالم وشاهدا مخلوقاته وأجريا التجارب والمعاينات. ويستدل التيار الأشعري والتيار المعتزلي ضد بعضهما البعض بأقوال مرسلة واستنتاجات جدلية وخطابية دون دليل مباشر من القرآن والسنة المتواترة، ودون أية مشاهدة علمية تخضع للقياس العلمي. وتطول المعركة بين التيار المعتزلي والتيار الأشعري حول هل أجسامهم كثيفة أم رقيقة؟ وكيف يمكن رؤيتهم؟ ونظرا لأن الخرافة منظومة متكاملة الأركان، فإنهم يزعمون أن رؤية الجن والشياطين منهم ممكنة، «قَالُوا: إنه يجوز أَن نراهم إِذا قوى الله تَعَالَى شُعَاع أبصارنا» «آكام المرجان في أحكام الجان ص35». وهذا خطأ علمي كبير؛ لأن الرؤية لا تتم نتيجة شعاع يصدر من أبصارنا، بل تحدث في البصر عندما تسقط أشعة الضوء على الجسم الخارجي ثم تنعكس على العين وتجمع القرنية في العين أشعة الضوء الساقطة، ثم تنتقل إلى الشبكية، ثم إلى العصب البصري، ثم إلى مركز الإبصار في الدماغ الذي يفسر ويترجم الرسائل العصبيّة ويحولها إلى أشكال وصور. ومن الأمثلة على الاستدلالات والقفزات في الاستنتاج بالكتب الصفراء، التجرؤ على إدخال الله سبحانه وطبيعته وقدراته طرفا في المقارنة مع الإنسان حيث ينقل الشبلي في ذلك :«قال القَاضِي عبد الْجَبَّار: وَهَذَا لَا يَصح لوجوه، مِنْهَا أَن الله تَعَالَى يراهم وَيرى بَعضهم بَعْضًا، وَلَو كَانَ الْأَمر كَمَا قَالُوا لما جَازَ أَن يرَوا؛ لِأَنَّهُ جعل الْعلَّة فِي جَوَاز كَونهم مرئيين هُوَ إِحْدَاث لون مَخْصُوص، فَإِذا لم يحدث لم يَكُونُوا مرئيين، وَأَن يكون الله تَعَالَى أحدث هَذَا اللَّوْن، فَلهَذَا رَآهُمْ وَرَأى بَعضهم بَعْضًا، فَيجب أَن نراهم نَحن». هكذا عزيزي القارئ، إنهم يقيسون طريقة الرؤية في الإنسان على الرؤية الإلهية وهذا عندنا في الخطاب الديني الذي ندعو إليه غير جائز فلا مقارنة بين الله ومخلوقاته، ولا يجوز قياس رؤيتنا على رؤية الله أو العكس، فالله سبحانه «فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «سورة الشورى آية 11»، «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا» «سورة الإسراء، آية 43». وتستمر المناقشات الجدلية البيزنطية في العقائد، ومنها «أَنه لَا يجوز خلو الْأَجْسَام من اللَّوْن أَو ضِدّه، عَن شَيخنَا أبي عَليّ فَلَا بُد من أَن يكون فيهم لون من الألوان، وكل مَا يتضاد على الْجِسْم وَيدْرك بحاسة فَلَا بُد من أَن يدْرك تِلْكَ الحاسة مَا يُنَافِيهِ وبضده. وَقد جعل الله تَعَالَى فِي الْجِنّ اللَّوْن الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل ورأيناهم ثمَّ نفى هَذَا اللَّوْن بلون آخر لوَجَبَ أَيْضا على مَا قُلْنَا إِن نراهم، فَإِذا كَانَ حكم كل لون هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ فِي أَنه يدْرك بالحاسة الَّتِي يدْرك بهَا هَذَا اللَّوْن وَيدْرك الْجِنّ لأَجله ثمَّ لم تخل الْأَجْسَام من الألوان كلهَا على مَذْهَب شَيخنَا أبي عَليّ وَوَجَب أَن نراهم وَفِي علمنَا باضطرار أَن الْأَمر بِخِلَاف هَذَا دَلِيل على سُقُوط هَذَا الِاعْتِرَاض، وَأما على قَول أبي هَاشم فَإِنَّهُ يُجِيز خلو الْأَجْسَام من الْأَعْرَاض كثيفة كَانَت أَو رقيقَة سوى الألوان وَلَو كَانَت كثيفة لم يكن بُد من أَن يَرَاهَا الرَّائِي مَعَ عدم السواتر، وَكَيف يَصح لَهُ هَذَا الِاسْتِدْلَال مَعَ هَذَا القَوْل على أَن الْجِسْم يرى وَإِن كَانَ يرى مَعَه اللَّوْن أَلا ترى أَن الرَّائِي يرى حُدُود الْجِسْم وَطوله وَعرضه وَهَذِه صِفَات الْأَجْسَام لَا صِفَات الألوان فَدلَّ على ان وجود اللَّوْن فِي الْجِسْم لَيْسَ من شَرطه كَونه مرئيا فقد بَان بِهَذِهِ الْوُجُوه بطلَان هَذَا الِاسْتِدْلَال وَأَن الدَّلِيل فِي كوننا غير رائين لَهُم إِنَّمَا هُوَ رقة أجسامهم على مَا بَينا. قَالَ: وَإِنَّمَا يدْرك بَعضهم بَعْضًا للطافة حواسهم وللطافة تَأْثِير فِي هَذَا الْإِدْرَاك أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يدْرك بحدقته من الْحر وَالْبرد مَا لا يُدْرِكهُ بِأَسْفَل قَدَمَيْهِ وَذَلِكَ للطاقة الحدقة وَنحن أَسْفَل الْقدَم وصلابته، فَإِن قيل فِي الْحَاجة فِي رُؤْيَة اللَّطِيف إِلَى قُوَّة شُعَاع الْبَصَر فِي رُؤْيَته، قيل لَهُ : الَّذِي يدل على الْحَاجة إِلَى قُوَّة شُعَاع فِي رُؤْيَة اللَّطِيف لَا يحْتَاج إِلَى مثل ذَلِك فِي الكثيف، أَلا ترى أَنا لَا نرى الرّيح مَا دَامَت رقيقَة لَطِيفَة فَإِذا كثفت باختلاط الْغُبَار رأيناها وَهَذَا ظَاهر فَلذَلِك قُلْنَا لَو كثف الله تَعَالَى أجسام الْجِنّ وقوى شُعَاع أبصارنا على مَا هُوَ عَلَيْهِ من غير أَن يقوى لرأيناهم»، «آكام المرجان في أحكام الجان ص 36- 37». هكذا عزيزي القارئ، إنهم مرة أخرى يبنون استنتاجاتهم وأحكامهم العقائدية على قضية باطلة، وهي أن السبب في الرؤية هو الشعاع الخارج من البصر!. نقلا عن: صحيفة الأهرام