قبل أن تقرأ منذ 15 عاما وتحديدا في 1994 كانت مكتبة الأسرة تحبو أولي خطواتها نحو مختلف الشرائح العمرية، وكل بيت مصري، بعد أن خرجت الفكرة من رحم اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع برئاسة السيدة سوزان مبارك رئيس اللجنة وراعية المهرجان. كانت تتلمس طريقها نحو جيل كامل يمثل حاليا الركيزة الأساسية للتنمية والتفاعل السياسي والاجتماعي.. اقتحمت عالمهم بالمعرفة.. أسهمت في تطور أفكارهم وتصوراتهم وطموحاتهم، بعد أن وضعت بين أياديهم مئات الكتب والمراجع والموسوعات بأسعار رمزية كان يندر أن يتحصلوا عليها في وقت سابق. ففي عام 1994 قدمت المكتبة سلسلتي الأعمال الإبداعية والفكرية وضمت 40 عنوانا وسلسلة تراث الإنسانية " 127 عنوانا".. واستمر الوضع في العامين التاليين بهاتين السلسلتين ولكن بزيادة مطردة في عدد المطبوع مع إضافة عناوين جديدة. وفي عام 1997 قدمت المكتبة 9 سلاسل مختلفة بإجمالي 170 عنوانا طبع من كل منها أعداد تتراوح بين 50 إلي 100 ألف نسخة وفي العام التالي تمت إضافة سلسلة جديدة ليصل إجمالي ما تم تقديمه نحو 11 سلسلة تم إضافة العديد من الموسوعات لها في مراحل تالية. واستمرارا للعطاء الثقافي للمكتبة الذي ترعاه السيدة الأولي، كان أن دخلت سلسلة التراث هذا العام إلي منحي مختلف يعد إضافة متميزة للمكتبة للشكل النهائي لمجلداتها "الفاخرة" رغم رمزية الثمن! فبالإضافة إلي ما دأبت عليه المكتبة خلال السنوات الماضية من تقديم مجموعة من روائع التراث مثل: "الأغاني للأصفهاني"، وبدائع الزهور لابن إياس، وحياة الحيوان للدميري، والمختار من رحلات ابن بطوطة وتاريخ الجبرتي، والإمتاع والمؤانسة، وغيرها، قدمت المكتبة كتاب "شرح الأصول الخمسة" لقاضي القضاة عبد الجبار الهمداني، وهو كتاب يعد من أعمدة "علم الكلام" بحق.. حمل العديد من السجالات المختلفة والمناقشات بين الفريقين الكبيرين في مجال العقيدة "الأشاعرة" و"المعتزلة" والأخيرة مثلها مؤلف الكتاب عارضا لأهم ما طرحته الفرقة الأولي من أفكار والرد عليها.. وهو ما سنحاول عرض أهم ملامحه التي صادفناها أثناء رحلتنا داخل الكتاب بادئين بأصل "التوحيد" وصفات الذات الإلهية!؟ روزاليوسف
قد تكون السطور التالية صادمة لكل من شخصت عيونهم لرؤية الذات الإلهية.. ولكل من اعتبروا أن رؤيته- سبحانه وتعالي- حق يجزون به في الآخرة علي صالح أعمالهم في الدنيا!.. لكن الأمر في النهاية ليس أكثر من رؤية نقدية لبعض التفاسير والمرويات التراثية، وجزء من "الجدل" الذي أسس عليه كل من "المعتزلة" و"الأشعرية" مدارسهم في "علم الكلام"! فالمعتزلة- وبحسب كتاب "شرح الأصول الخمسة" لقاضي القضاة عبدالجبار بن أحمد الهمداني "المعتزلة"- انحازوا إلي نفي الرؤية من حيث الأصل.. اعتبروها خروجاً عن المنطق والمقبول والمعقول!.. لكنهم كانوا أيسر تحيزاً هذه المرة ولم يجهلوا أو يكفروا مخالفيهم.. فالجهل بالاعتقاد بأن رؤية الله ممكنة لا يقتضي بالضرورة جهلاً بالذات العالية أو صفاته القدمية! لذلك لم يكفروا "الأشعرية" في هذه المسألة وأدخلوها في باب الخلافيات! تمسك أتباع ابن عطاء "المعتزلة" بحرفية أدلتهم النصية، وأولوا كل أدلة خصومهم "النقلية"!.. قالوا إن الله "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير"، واعتبروا أن قوله تعالي "وجوه يومئذ ناضرة إلي ربها ناظرة" يحمل أكثر من تفسير!، وأن كلمة "ناظرة" تحتمل التأويل! لا دنيا ولا آخرة! يقول القاضي عبدالجبار رداً علي ما استدل به "الأشاعرة" بأن قوله تعالي: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" قول عام يشمل دار الدنيا ودار الآخرة، وأن قوله تعالي: "وجوه يومئذ ناضرة إلي ربها ناظرة" خاص بدار الآخرة فقط: إن هذا الأمر مردود عليه بأكثر من وجه: الأول أن النظر في الآية يقصد به "الانتظار"، أي أن الوجوه الناضرة كانت تنتظر ثواب ربها، لأن "النظر" بمعني "الانتظار" جاء في أكثر من آية منها: "فنظرة إلي ميسرة"- البقرة 28- ومنها "فناظرة بما يرجع المرسلون"- النمل 35- أي أن ملكة سبأ كانت تنتظر المرسلين! أما التأويل الثاني، فهو أن "النظر" يعني تقليب الحدقة، وهو أسلوب بلاغي تكرر في القرآن في أكثر من موضع، يذكر المولي نفسه ويريد غيره، كما قال في موضع آخر "واسأل القرية" أي أهل القرية، وقال "إني ذاهب إلي ربي" أي إلي حيث أمرني ربي، وقال: "وجاء ربك" أي وجاء أمر ربك. واستدل عبدالجبار علي "الأشعرية" بأن الله "القديم" لو جاز أن يري في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن، فمتي لم نره ودل ذلك علي استحالة كونه مرئياً، حتي لو احتج المؤيدون للرؤية ب"المشيئة"، وأن الله تعالي لو شاء لرأيناه، لأن المشيئة تتعلق بما يصح لا بما يستحيل، ورؤيته تعالي تستحيل في أي وضع كما أوضحنا! وكذلك قوله عز وجل "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً".. أي أن المولي أراد لقاء ثواب ربه، وقوله: "وأنا أدعوكم إلي العزيز الغفار" يقصد به طاعة العزيز الغفار. الفقه بديلاً! كان للاتجاه العقلي عند المعتزلة واعتمادهم علي فنون الاستدلال المختلفة أثر قوي في انجذاب العديد من الطبقات لهم ولأفكارهم بما في ذلك "الحرفيون والصناع"، وكان أتباع ابن عطاء يُطَعِمون أدلتهم الكلامية بالعديد من علوم الحديث والفقه، وهو ما صنع لهم رواجاً أوسع علي مستوي النخبة مقارنة بالأشاعرة في فترات زمنية بعينها! فبحسب إحدي الروايات التراثية، فإن قاضياً استدل بقوله عز وجل: "فمن كان يرجو لقاء ربه" علي إمكانية رؤية الذات الإلهية، فاعترض عليه ملاح كان بجواره، وقال له: ليس اللقاء بمعني الرؤية، لأن كلا من اللفظين يستعمل حيث لا يستعمل الآخر، ولو كان اللقاء بمعني الرؤية لم يختلف الحال فيه بين المؤمنين والمنافقين، لأن الله تعالي قال: "فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلي يوم يلقونه" وعلي هذا فإن المنافقين أيضاً سوف يرونه!.. فقال له القاضي: من أين لك هذا؟!.. فأجاب الرجل: من رجل بالبصرة يقال له أبو علي بن عبدالوهاب الجيائي، فقال: لعن الله ذلك الرجل، لقد بث الاعتزال في الدنيا حتي سلط الملاحين علي القضاة! ووفقاً للمنهج الاستدلالي للمعتزلة، لجأ عبدالجبار إلي ثلاث حيل فقهية مختلفة لتجاوز عقبة الحديث النبوي الذي رواه البخاري عن النبي- صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر". لجأ القاضي المعتزلي إلي منهج رد الحديث تارة، ثم علم الجرح والتعديل، ثم اعتباره "آحاداً" لا يقتضي القطع ولا تثبت به عقيدة! وهو بذلك اعتمد علي أن الخبر يتضمن الجبر والتشبيه، فالقمر لا يري إلا مدوراً عالياً منوراً، ومعلوم أنه لا يجوز أن يري القديم تعالي علي هذا الحد، لذلك- بحسب عبدالجبار- يجب أن نقطع أنه كذب علي النبي- صلي الله عليه وسلم- وأنه لم يقله! أما المنهج الثاني، فذكر الكتاب أن راوي الخبر هو قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبدالله البجلي، وقيس هذا مطعون فيه من وجهين: أحدهما؛ أنه كان يري رأي الخوارج، وينسب له أنه قال سمعت علياً علي منبر الكوفة يقول: "انفروا إلي بقية الأحزاب" فدخل بغضه في قلبي، والثاني: قيل أنه خولط في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه علي عادتهم في حال عدم التمييز، ويحكي عنه أنه قال لبعض أصحابه: أعطني درهماً اشتري به عصا، أضرب بها الكلاب، وهذا من أفعال المجانين! ويقال أنه كان محبوساً في بيت، فكان يضرب علي الباب، وكلما أحدث الباب صوتاً كان يضحك وحتي وإن صح الخبر- والقول لعبدالجبار- فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد.. وخبر الواحد مما لا يقتضي العلم، وما نتحدث فيه يتطلب القطع والثبوت، خاصة أن الخبر معارض بأخبار أخري، منها ما روي عن أبي قلابة عن أبي ذر أنه قال: قلت للنبي: هل رأيت ربك، فقال: "نور هو، أني أراه".. رواه مسلم! معركة التجسيم! كان لمعركة "رؤية الله" بعد آخر من السجالات "الكلامية" بين الأشعرية والمعتزلة، وكان له عنوان لافت هو "هل يجوز أن يكون الله تعالي جسماً؟!".. وانحاز الفريق الأول إلي أنه يجوز، وارتكن الفريق الثاني إلي أنه لا يجوز. وبصورة عامة، فإن المعتزلة اتخذوا مما قاله الأشعرية من أدلة، أدلة مضادة لتأييد وجهة نظر فريقهم، ففيما قال أتباع "أبو موسي" أن قوله تعالي: "الرحمن علي العرش استوي" يقتضي هذا لأن الاستواء، هو القيام والانتصاب، وهما ما لا يتوافران إلا في الأجسام، رد أتباع "ابن عطاء" بأن الاستواء في اللغة يعني الاستيلاء والغلبة! وقوله تعالي: "كل شيء هالك إلا وجهه"، فالمراد به كل شيء هالك إلا ذاته، أي نفسه.. والوجه بمعني الذات مشهود في اللغة، فيقال: وجه هذا الثوب جيد، أي ذاته جيدة، وكذلك قوله: "بل يداه مبسوطتان" لا يعني بالضرورة التجسيم، فالمقصود بها النعمة.. وقوله "والسموات مطويات بيمينه" يعني باليمين القوة، وهو ظاهر في اللغة.. وقوله "يوم يكشف عن ساق"، فالمراد منه أنه لم يضف ساقٍ إلي نفسه، وإنما المراد به الشدة! وهي بطبيعة الحال نقطة من الصعب أن يعبرها أي من الفريقين.. فمن يقول بالتجسيم يذهب إلي إمكانية الرؤية، ومن يقول باستحالته يذهب في المقابل إلي استحالة رؤية الذات الإلهية سواء في الدنيا أو الآخرة. الأصول الخمسة! رغم الخلاف حول أسبقية أي من الأصول الخمسة "التوحيد- العدل- الوعد والوعيد- المنزلة بين المنزلتين- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ولعلم الكلام عند المعتزلة في الظهور إلا أن الاستقراء الجيد لنشأة فكر المعتزلة وتطوره يشير إلي أن أصل "المنزلة بين المنزلتين" هي الأسبق في الظهور، وهذا الأصل ظهر أول ما ظهر في الخلاف الشهير الذي نشب بين الحسن البصري وواصل بن عطاء حول مرتكب الكبيرة، وكان ابن عطاء يري أنه ليس بكافر ولا بمؤمن، أي أنه في منزلة بين المنزلتين، ليعتزل بعدها مجلس أستاذه! إلا أن ما يحسب لشارح الأصول الخمسة هو أنه قام بأول محاولة فعلية للم شتات الأصول ومتفرقاتها في كتاب واحد محاولاً تصنيفها وتبويبها والرد علي ما رآه من شبهات أثارها خصوم فرقته، وإن كان لم يخرج كثيراً في إطار كل مبحث من مباحث الأصول الخمسة علي ما هو متعارف بين علماء الكلام وعلي صفحات مصنفاتهم، فنجده حرص علي أن يضم مبحث "الإمامة" إلي أصل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" باعتباره أصلاً من أصول "العقيدة"، رغم أن مباحث هذا الفصل تنتمي من حيث الأصل إلي "الفقه"!.. ربما كان هذا جرياً علي سنة "المتكلمين" الذين نادوا بوجوب وجود إمام لكل زمان، وأنه لا يجوز أن يخلو زمان من إمام علي اختلافات فيما بينهم! والأصول الخمسة- حسبما صنفها القاضي عبدالجبار- بدأت ب"التوحيد"، وهو أن يعلم "المكلف" الصفات المستحقة للذات الإلهية وكيفية استحقاقه لها، وما يجب له في كل وقت، وما يستحيل عليه من الصفات، وما يستحقه في وقت دون آخر، وهو ما اتفق عليه كل من المعتزلة والأشاعرة! لكنهم اختلفوا في المقابل حول الأصل الثاني "العدل".. فالمعتزلة أرادوا به إنقاذ العدل الإلهي من الظلم، بينما رأي الأشاعرة أن لا ظلم في الحقيقة، لأن الله فاعل علي الحقيقة، ومعني أن الله عدل عند "المعتزلة" أن هذا ما يقتضيه العقل من الحكمة، أما الأشاعرة فيرون أن الله عدل تعني أنه متصرف في ملكه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالمعتزلة أرادوا أن ينزهوا الذات الإلهية عن الظلم، فارتفعوا بالإرادة الإنسانية وجعلوها المسئولة عن عملها.. أما الأشاعرة فرأوا أن ذلك تضييق من قدرة الله، ولذلك طرحوا نظرية "الكسب"، وملخصها أنه لا فاعل للأفعال إلا الله، وأنه قدر كل شيء قبل خلقه، ويقترن خلق الله لأفعال الإنسان بكسبه، فالأفعال مخلوقة من الله، مكسوبة من العبد! أما الوعد والوعيد "الأصل الثالث".. فالوعد يتضمن إيصال النفع إلي الغير أو دفع الضرر عنه في المستقبل، سواء كان مستحقاً أم لا.. والوعيد هو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلي الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل. وبالإضافة إلي أصل "المنزلة بين المنزلتين" التي كانت السبب الرئيسي في نشوء فكر الاعتزال، يأتي أصل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ويضم إلي جانب الإمامة مباحث القضاء والقدر والآجال والأرزاق والأسعار والتوبة!