د. سليمان عبدالمنعم لعلى واحد من الذين يعتقدون أن أغلى ما تمتلكه مصر هو ذكاء أبنائها وقدرة نخبتها العلمية والأكاديمية على الإبداع والتميز، لكنى أعتقد فى الوقت نفسه أن إحدى مشكلاتنا أننا لا نحسن إدارة هذا الذكاء والإبداع وتوظيفه لدفع حركة النهوض والتنمية والبحث العلمى فى بلادنا. وسأناقش هنا مثالاً محدّداً يتعلق ب حركة البحث الأكاديمى لدى شباب الباحثين فى الجامعات المصرية ، لا سيّما أولئك الذين يعدون أطروحات دكتوراه. فهذه الأطروحات، وبخلاف ما تتوّج به أصحابها فى نهاية المطاف من درجة علمية رفيعة هى بالأساس مشروع بحثى يُخصّص له الباحث عدة سنوات من أشق وأخصب مراحل حياته البحثية. وكان يمكن لهذه المشروعات البحثية التى يتفرغ لها المدرسون المساعدون بالجامعات، وهم أصلاً ذوو قدرات علمية وبحثية متميزة أن تمثل إضافة كبرى لحركة التنمية. لكن الحاصل اليوم، وهذا هو جوهر هذا المقال ومغزاه، أن معظم أطروحات الدكتوراه فى الجامعات المصرية لا يتم توظيفها على النحو الأمثل فى قضايا التنمية ومشكلاتها وأولوياتها فى المجتمع المصري. ويتجلّى هذا الأمر على وجه الخصوص فى مجال العلوم الاجتماعية التى يمثل الحقل القانونى وما يرتبط به من حقول معرفية مجاورة أحد مجالاتها. والأرجح أن الظاهرة السلبية نفسها قائمة فى كليات أخرى للتخصصات العلمية وذلك فيما عدا بعض الاستثناءات الإيجابية التى يصعب القياس عليها واعتبارها النموذج السائد. وهكذا يكاد اختيار موضوعات الدكتوراه فى جامعاتنا يمضى فى واد بينما أولويات التنمية وقضاياها تمضى فى واد آخر. فالذى يحدث أننا نفتقد الرؤية المتسقة لربط البحث العلمى فى الجامعات ب خطة التنمية ، وبالتالى نهدر وقتاً وقدرات بحثية هائلة فى إعداد أطروحات دكتوراه فى موضوعات مكرّرة أو واهنة الصلة بأولويات التنمية، أو برّاقة فى ظاهرها لكن خاوية فى موضوعها لا تقدم جديداً أو إضافة بل تكرّر المكرّر وتعيد المُعاد لتكون النتيجة فى النهاية أننا لا نخدم بإمكاناتنا البحثية قضايا التنمية، ولا البحث العلمى نفسه تقدّم فى جامعاتنا. منذ عدة شهور قامت وزارة التعليم العالى بما عليها لمعالجة هذه المسألة المتمثلة فى انفصال حركة البحث العلمى فى الجامعات عن خطط التنمية فأرسلت إلى الجامعات مذكرة بهذا الشأن، فخاطبت الجامعات الكليات، وأعادت الكليات تصدير المذكّرة إلى الأقسام العلمية فماذا حدث بعد ذلك؟ ما حدث أن كل الذى قامت به وزارة التعليم العالى ظل على الأقل حتى الآن حبراً على ورق مثل كل الأحبار والأوراق التى تُهدر فى بلادنا لأن أحداً لا يراقب ولا يتابع ولا يسأل عن الآلاف المؤلفة من درجات الدكتوراه التى تُعطى بلا ضوابط أو معايير علمية حقيقية، وكل ما فعلناه أننا اختلفنا حول دقة عدد هذه الآلاف المؤلفة فى بعض الجامعات وهل هو 50 ألفاً أم 55 ألفاً وأشياء طريفة ومراوغة من هذا القبيل!! ولا تقتصر ظاهرة الانفصال بين البحث العلمى فى جامعاتنا وقضايا التنمية وأولوياتها على أطروحات الدكتوراه التى يتم إعدادها داخل مصر، بل تشمل أيضاً أطروحات الدكتوراه التى يُعدها المبتعثون المصريون فى جامعات الدول المتقدمة خارج مصر. وإذا كانت مصر قد عرفت مبكراً سياسة البعثات العلمية إلى أوروبا لاكتساب العلوم والمعارف والآداب والفنون، وهى الدولة الفقيرة التى اقتطعت من اللحم الحى كما يقال لكى تدبر الإنفاق اللازم على مبعوثيها فى الخارج، فإنه لا أحد ينكر ما قام به أعضاء هذه البعثات بعد عودتهم من دور تنويرى وجهد علمى وبحثى فى تطوير العديد من قطاعات الدولة. لكن، وبرغم هذا، مازال ملف الابتعاث الخارجى يطرح التساؤل حول ما إذا كان اختيار موضوعات الدكتوراه يتم فى إطار ربطه بقضايا التنمية الخاصة بالمجتمع المصري. قد تكون لدى وزارة التعليم العالى من خلال إدارة البعثات خطط للمجالات والموضوعات التى يوفد باحثونا من أجل دراستها والتعمق فيها ليعودوا إلى الوطن بما يثرى هذه المجالات والموضوعات، لكن يظل السؤال، كل السؤال هل يتم تنفيذ هذه الخطط بالفعل والالتزام بها أم أن الأمر لا يتجاوز مرة أخرى أن يكون مجرد حبر على ورق؟ واقع الأمر أن كل مبعوث إلى الخارج يكون له اختيار (أي) موضوع لبحثه العلمى فى دولة الإيفاد ولو كان هذا الموضوع غير ذى أهمية تُذكر ضمن قائمة الأولويات والموضوعات التى تحتاجها مصر، بل إن الموضوعات التى تخدم البحث العلمى للدول الأجنبية نفسها تبدو رائجة ومحل تشجيع من جانب الجامعات الأجنبية وعلى وجه التحديد فى مجال العلوم الاجتماعية. بالطبع لا أحد ينكر أن كل بحث علمى مفيد فى حد نفسه أياً كان مجاله أو موضوعه، وليس القصد من ربط البحث العلمى بمشكلات المجتمع وقضايا التنمية هو تقييد حرية البحث العلمى أو مصادرة حق الباحثين فى اختيار ما يرونه من موضوعات، لكن القصد هو وضع قائمة ولو استرشادية تتضمن الموضوعات المقترحة المرتبطة باحتياجات وأولويات خطط التنمية فى شتى مجالاتها، ويترك للمبعوث المصرى اختيار الموضوع الذى يراه فى مجال تخصصه. هذه سياسة للتوفيق بين أولويات التنمية وحرية الاختيار المتروكة للباحث المبعوث إلى الخارج. هذه السياسة المرجوّة فى مجال الابتعاث العلمى للخارج تتطلب وضع خريطة معرفية ليس فقط بالتخصصات والموضوعات المرتبطة بعملية التنمية فى بلادنا، لكن أيضاً بالبلدان والجامعات الأجنبية الأكثر تقدماً فى هذه التخصصات والموضوعات، والتى ينبغى أن يوفد إليها باحثونا. هذاعمل يدخل فى صلب مهمة الإدارة العامة للبعثات الخارجية فى وزارة التعليم العالي. ولعل النجاح فى مثل هذه المهمة يتطلب بدوره الاهتمام بتطوير عمل هذه الإدارة، وتزيدوها بالعناصر ذات الخبرة والكفاءة التى تجعلها قادرة على مثل هذا التخطيط. فهذه ليست مهمة موظفين بيروقراطيين مهما علت درجتهم الوظيفية مع كامل الاحترام لهم، لكنها بالأساس مهمة خبراء رفيعى المستوى يستطيعون الإحاطة بخريطة البحث العلمى فى الجامعات الأجنبية المتقدمة، حتى لو استدعى الأمر أن يتم إيفاد عناصر الإدارة العامة للبعثات هم أنفسهم فى بعثات علمية خارجية! خلاصة القول إن معيار اختيار موضوع أطروحات الدكتوراه سواء فى داخل مصر أو خارجها يكاد يكون هو البحث من أجل البحث، والعلم من أجل العلم. حسنا، لكن ماذا عن البحث لخدمة المجتمع، والعلم من أجل التنمية؟ ...................... فقدت كلية حقوق الإسكندرية بل مصر كلها الأسبوع الماضى فقيهاً مجدّداً وأستاذاً جامعياً جليلاً وإنسانا من أجمل من عرفت فى حياتى وهو العالم الجليل الدكتور محمد كمال الدين إمام. كرّس حياته للبحث والتجديد فى قضايا الفقه الإسلامى والفقه المقارن، وأنجز موسوعة كبرى فى عشرة أجزاء عن فقه المقاصد حتى اعتبر أحد المتخصصين الكبار فى هذا الفقه. كمال إمام.. حبةٌ أخرى تنفرط من مسبحة علمائنا الذين أسسوا مدارس علمية ينتشر تلاميذها فى كل العالم العربي.تغمّد الله الفقيد بواسع رحمته وألهم أسرته ومحبيه وتلاميذه وألهمنى شخصياً الصبر والسلوان. * نقلًا عن صحيفة الأهرام