د. طه عبدالعليم أعلن باستقامة يقينى بأن مصر بقيادة الرئيس السيسى لن تسمح بفرض أمر واقع؛ يهدد حياتها المعتمدة على مياه النيل منذ آلاف السنين، ولاتزال تعتمد؛ لأنها تعانى فقرا مائيا متزايدا، لن تحررها منه كل جهودها الدءوبة لترشيد وإعادة استخدام حصتها من مياه النيل لحماية أمنها المائى والغذائي. وتدرك مصر أنه مازال صحيحاً أن من يملك السيطرة على منابع النيل يمكن أن يصيب مصر بالشَرَق أو بالغَرَق؛ أى أن النيل نظرياً وبالقوة مقتل كامن أو ممكن لمصر؛ ولذلك لا غرابةَ فى أن تكون السياسة المائية المصرية مسألة حياة أو موت لا أقل، كما أوجز جمال حمدان قبل نحو أربعين عاما. وعلى أصحاب التصريحات الرسمية الإثيوبية، المحملة بغطرسة جهولة، إدراك أن مصر، التى غلبت سبيل التفاوض على نهج الصراع، تملك من عناصر القوة الشاملة ما يحمى حقوقها الطبيعية والتاريخية والقانونية، وترى أن الموارد العذبة المتجددة فى بلدان منابع النيل تتيح فرصا لا حدود لها للكسب المتبادل بين بلدان حوض النيل. وفى هذا المقال أوجز ما فصَّله جمال حمدان عن جذور استخدام سلاح مياه النيل ل ابتزاز مصر ب السيطرة على منابع النيل ، وهى مؤامرات تبرز أمرين ينبغى ألا يغيبا قط عن مصر قيادة وشعبا ونخبة؛ أولهما، أنها كانت مدفوعة دوماً من الخارج، وثانيهما، أنها لم تتأثر بتغير النظم وتبدل الحكام. وأسجل: أولا، أنه بعد الانقلاب الشيوعى فى إثيوبيا عام 1974، تحالفت إثيوبيا مع الاتحاد السوفيتى وتلقت العون منه،وتحت قيادة منجستو هيلا مريام، الذى تولى لاحقا رئاسة المجلس العسكرى الشيوعى الحاكم ثم رئيس جمهورية إثيوبيا الشعبية الديمقرطية، شرعت إثيوبيا بقرار منفرد ومن وراء ظهر دول المصب فى إقامة سد على منابع النيل الأزرق !! وزعم مريام أن تحالف سفارى المضاد للمد الشيوعى «الذى تكون بقيادة الولاياتالمتحدة، وانضمت له مصر - تحت حكم السادات - والسعودية»، مؤامرة مصرية موجهة ضد إثيوبيا!! وحطم زجاجات مملوءة دماً مهددا مصروالسعودية إبان خطبة له فى عام 1979!! وفى هذا السياق، أعلنت مصر الرسمية - بلا تردد- أن هذه مسألة حياة أو موت. وثانيا، أن البعض قد توهم أن دول المصب - مثل مصر- هى بالضرورة فى الموقف الأضعف، فى حين أن دول المنبع، مثل إثيوبيا، فى الموقف الأقوي!! فتصورت الأخيرة بسوء نية أو سوء فهم، وبتحريض علنى أو خفى من قوى معادية لمصر أو متصادمة معها، أن بمقدورها هزيمة مصر فى صراع حياة أو موت بالنسبة لها!! وقديماً ومنذ وقت مبكر حسد بعض سكان المنبع - وهم فى اعتقادهم مصدر النيل - سكان المصب، ونسوا أن سبق مصر الحضارى على مدى تاريخها الألفى كان ثمرة كفاح المصريين من أجل ترويض النيل واستخدام مياهه فى تحقيق ثورة رى الحياض وثورة الزراعة المروية؛ ومن ثم قادوا مسيرة الحضارة الإنسانية طوال نحو ثلثى التاريخ الإنسانى المكتوب. وثالثا، أن فكرة الماء كسلاح سياسي، كانت من خلق أو إيعاز الاستعمار.. وهكذا، وبغض النظر عن الخطأ العلمى التاريخى الساذج - حين تعاظم المد الثورى الوطنى المصرى ضد الاستعمار الفارسى فى القرن 4 ق. م. فكر أردشير الثالث فى تحويل مجرى نهر السند فى شبه القارة الهندية، لكى يمنع مياهه عن الوصول إلى مصر تأديباً لها وردعاً، حيث اعتقدوا أنه منبع للنيل!! وحين وقعت كارثة الشدة المستنصرية فى منتصف القرن الخامس الهجرى أشيع أن الحبشة سدت مجرى النيل، فتوجه الخليفة المستنصر بالله إلى الحبشة وطلب منهم إطلاق النيل! وبعد أن خنقت البرتغال مصر «موقعاً» بطريق رأس الرجاء، فكرت فى خنقها «موضعاً» عن طريق أعالى النيل، واتصل أحد مغامريها الفاتحين بملك الحبشة كى يشق مجرى من منابع الأزرق إلى البحر الأحمر، فتتحول المياه إليه وتموت مصر جفافاً، وتصبح من الواحات المفقودة!. ورابعا، أنه فى مرحلة الاستعمار الإيطالى للحبشة أخفقت محاولة تحويل مجرى النيل الأزرق ، لكنها أعطت الفرصة للاستعمار البريطانى كى يدعى أنه حامى حمى مصر من الخطر الإيطالى المحدق؛ الذى يطوق مصر ب الغزو العسكرى من ليبيا وب العطش المائى من الحبشة !!وكان الاستعمار البريطانى يوعزللآخرين بفكرة تهديد إيرادات مصر من مياه النيل سواء للحكام والأهالى الوطنيين أو للاستعمار الأوروبى المضاد، وفى الوقت نفسه يتقدم إلى مصر ذاتها فى ثوب المدافع والمكافح الصلب عن حقوقها المشروعة!! وهكذا، سارع - غير مدعو - إلى الحصول أكثر من مرة على تأكيدات وتعهدات من إمبراطور الحبشة بعدم التصرف فى مياه النيل بأى شكل دون الاتفاق معه، وهو ما استهدف: فتح عيون الحبشة على إمكانية ذلك التصرف، من جهة، وتهديد مصر بطريقة غير مباشرة حتى تخضع لوجوده، من جهة ثانية. وخامسا، أن الاستعمار البريطانى فى السودان أوعز إلى عملائه المحليين بأكذوبة وخرافة «الحقوق المغتصبة» يشرعها فى وجه «الحقوق المكتسبة» بقصد إلحاق الأذى بمصر!! وكان الماء كسلاح سياسى من أهم أدوات السياسة المائية للاستعمار البريطانى لإخضاع مصر؛ فأكثرت من السدود والخزانات والمشاريع المائية والزراعية فى السودان. وكان التمادى فى تلك السياسة يهدد مصالح مصر بتخفيض مستوى النيل بحيث يتعذر ملء الحياض فى بعض السنين، وخطر الجفاف فى سنوات الفيضانات الشحيحة!! وفرضت بريطانيا اتفاقية مياه النيل سنة 1929 المجحفة لمصر، وكثيراً ما ارتفعت أصوات فى مجلس العموم تطلب منع مياه النيل عن التدفق إلى مصر، كما حدث فى أزمة السويس مثلاً!! وعمدت بريطانيا قبل ترك مستعمراتها فى حوض النيل الى تأليبها على مصر مائياً!! وكانت إحدى الذرائع المنتحلة التى تعلل بها الغرب لسحب عرضه قرض تمويل بناء السد - بعد أن كان قد وافق عليه فنياً وهندسياً- زعمَه أنه يضر ببعض دول حوض النيل!! وبالفهم الصحيح، توصلت مصر والسودان إلى اتفاقية 1959، التى حلت المشكلات المعلقة بين البلدين، وتبنت مبدأ الحقوق المكتسبة، وأقرت مبدأ المناصفة بعد ذلك فى المياه والمشاريع والمسئوليات والالتزامات. * نقلًا عن صحيفة الأهرام