منذ الأزل كان قدر مصر أن يأتيها ماء الحياة من وراء الحدود.. وكان النيل كنهر من أطول أنهار الدنيا لايمكن أن يكون وحدة بشرية أو سياسية واحدة.. ومن وقت مبكر جدا كان بعض سكان المنبع المتخلفين يحسدون سكان المصب المتقدمين.. ولكن بعد أن وصل المستعمرون الدخلاء إلي الحوض جاء معهم العداء الحقيقي لمصر. يروي لنا د.جمال حمدان في موسوعته العلمية الخالدة "شخصية مصر" أن البرتغاليين بعد أن خنقوا مصر عن طريق رأس الرجاء حاولوا خنقها عن طريق أعالي النيل.. وأن أحد مغامريهم اتصل ب "برستوجون" ملك الحبشة لكي ينفذ حلمه الشرير بشق قناة من النيل الأزرق إلي البحر الأحمر فتتحول المياه إليه وتترك مصر لتموت جفافا حتي تختفي من الخريطة.. ولكن بطبيعة الحال لم يكن لمثل هذا المشروع الجنوني من مكان إلا سلة مهملات التاريخ. وفي مرحلة الاستعمار الإيطالي للحبشة تجددت المخاوف من سيطرة قوة معادية لمصر علي منابع الفيضان في الحبشة.. ولكن الأبحاث المستفيضة لإخصائيي الري انتهت إلي أن من المستحيل أن يعترض عدو مهما حاول تدفق مياه الفيضان الموسمية الكاسحة.. إذ يصيب نفسه بالغرق المدمر قبل أن يصيب مصر بالجفاف. وقد عادت الفكرة في صورة مخففة فيما بعد علي يد الاستعمار البريطاني في السودان وشرق أفريقيا حيث تم استخدام مياه النيل أداة للضغط السياسي علي مصر.. وكان التهديد المرفوع دائما هو منع مياه النيل من التدفق إلي مصر أو تحويل مجري النهر عن طريقه الطبيعي. ويرد د.حمدان بأن هذا تهديد صبياني لأن مياه النيل تتجه إلي مصر في النهاية كظاهرة طبيعية.. وقد قامت عليها الحياة في مصر قبل أن تعرف المنابع العليا السكني المستقرة.. وهي بهذا حق مكتسب بالتاريخ والجغرافيا يعترف به القانون الدولي.. أضف إلي ذلك أن الطبيعة وازنت وعوضت تلقائيا ما بين المطالب والحاجات الطبيعية من الماء لكل قطاع بالنهر.. فبانتظام مطرد يقل اعتماد كل قطاع من النهر وحاجته من المياه كلما صعدنا من المصب إلي المنبع. ومن حسن الفطن أن أقيمت أهم مشاريع الري المصرية داخل الحدود المصرية لتكون في ضمان ومنأي عن الضغوط السياسية التي تظهر بين فترة وأخري.. واليوم تتعرض مصر لأكبر اختبار لوجودها ولحقوقها المائية بسبب سد النهضة الذي بدأت اثيوبيا في بنائه علي النيل الأزرق متجاهلة كل النداءات والمناشدات من أجل التوصل الي حل سلمي يحفظ حقوق الأطراف جميعا.. ولو حدث ونفذت اثيوبيا مشروعها بالقوة فسوف تقع مصر تحت سلسلة من التهديدات المتصلة من بقية دول المنبع المتربصة أو من الدول المعادية المحرضة من أجل إلهاء مصر في دوامة من الصراعات مع محيطها الأفريقي وفنائها الخلفي فلا تقوي علي مد بصرها إلي ما هو أبعد ولا تقوي علي أن تحلم بما هو أفضل. وليس من المبالغة القول بأن مستقبل مصر متوقف اليوم علي نتيجة هذه المواجهة.. فإن خرجت منها مرفوعة الرأس محافظة علي حقوقها المائية فسوف تشق طريقها إلي البناء والتنمية والديمقراطية وغير ذلك من الأحلام التي تراودها أما لو حدث العكس لاقدر الله فسوف تفرض علي نفسها الجمود والعزلة والانكسار.. وسوف يكون عليها أن تنتظر سنوات طوال وتبذل جهودا جبارة لتعود مصر إلي شخصيتها.. إلي مصريتها.