د. محمد السعيد إدريس انتهت القمة الافتراضية المصغرة التى عقدت عبر تقنية «الفيديو كونفرانس» يوم الجمعة الماضى (26/6/2020) بمشاركة كلٍ من الرئيس المصرى ورئيس الوزراء الإثيوبى ورئيس وزراء السودان وترأسها سيريل رامو فوزا رئيس جمهورية جنوب أفريقيا الذى تتولى بلاده رئاسة الدورة الحالية للاتحاد الأفريقى وبمشاركة الدول الأعضاء فى هيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقى لمناقشة قضية «سد النهضة»، بما يمكن اعتباره تفاؤلاً مشوباً بحذر مفاده «قبول إثيوبيا تأجيل البدء فى ملء خزان سد النهضة، الذى كان مقرراً أن يبدأ غداً الأربعاء الأول من شهر يوليو إلى حين تنتهى لجنة متخصصة من التوصل خلال أسبوعين من تاريخه لاتفاق يتم التوقيع عليه من الأطراف المعنية». المتحدث الرسمى المصرى أدلى بتصريحات تفصيلية لمهمة تلك اللجنة والاتفاق المتوقع التوصل إليه خلال الأسبوعين المقبلين فقال إنه تم التوافق على تشكيل «لجنة حكومية» من الخبراء القانونيين والفنيين من الدول الثلاث المعنية: مصر والسودان وإثيوبيا إلى جانب الدول الأفريقية الأعضاء فى هيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي، وكذا ممثلو الجهات الدولية المراقبة للعملية التفاوضية، وذلك بهدف الانتهاء من بلورة «اتفاق قانونى نهائى ملزم لجميع الأطراف» بخصوص قواعد ملء و تشغيل سد النهضة ، مع الامتناع عن القيام بأى إجراءات أحادية، بما فى ذلك ملء خزان السد، قبل التوصل إلى هذا الاتفاق، وإرسال خطاب بهذا المضمون إلى مجلس الأمن الدولي، باعتباره جهة الاختصاص. عند هذا الحد كان يمكن أن يكون التفاؤل مقبولاً ولكن استثنائى. فمن المفترض أن تكون مصر قد حضرت هذه القمة وهى تدرك أن أثيوبيا لا تفى بوعود أو اتفاقات، وأن كل ما يعنيها هو كسب الوقت لفرض الأمر الواقع على مصر، والأمر الواقع الذى تريده هو أن يتحول سد النهضة إلى «محبس للمياه» يحول دون وصول مياه نهر النيل إلى مصر إلا بالقدر الذى تتفضل به إثيوبيا، انطلاقاً من قناعات أثيوبية بأن حقها فى مياه نهر النيل «حق سيادى» أى أن نهر النيل ملكية إثيوبية، وأن ليس لمصر أى حقوق تاريخية فى مياه النيل، وأن ما تعتبره مصر حقوقاً تاريخية هى مظالم فرضها الاستعمار البريطانى على إثيوبيا والدول الأخرى الشريكة فى حوض النيل وأن الأوان قد آن كى تتمرد هذه الدول على هذا الإرث الاستعمارى وتسقطه نهائياً. قبل أن تفكر مصر فى أن تأخذ حذرها من أى تراجع إثيوبى فاجأت رئاسة الوزراء الإثيوبية الجميع بموقف يمكن تكييفه بأنه «استعداد مبكر للتنصل» من أى اتفاق يمكن أن يتم التوصل إليه، أو بوضوح أكثر «عرقلة أى اتفاق يمكن الوصول إليه» عبر اللجنة الفنية المقترحة. فقد أعلن آبى أحمد رئيس الحكومة الإثيوبية السبت الفائت (27/6/2020)، أى بعد ساعات قلائل من انفضاض تلك القمة الأفريقية المصغرة، أن إثيوبيا «تعتزم بدء ملء خزان سد النهضة فى غضون الأسبوعين المقبلين بينما سيجرى مواصلة الأعمال المتبقية». مصر الآن أمام أحد افتراضين، الأول أن تعتبر التصريحات الإثيوبية تلك التى تتعارض مع مضمون ما تم الاتفاق عليه فى القمة الأفريقية المصغرة «للاستهلاك الداخلى الإثيوبى» ومحاولة لإنقاذ ماء وجه الحكومة الإثيوبية أمام شعبها بعد أن اضطرت القيادة الإثيوبية للقبول بما توصلت إليه القمة الأفريقية، أما الافتراض الثانى فهو التعامل مع تلك التصريحات الإثيوبية بأنها تتضمن نوايا إثيوبية مؤكدة لتخريب عمل اللجنة الفنية مع العمل على تحميل مصر أى مسئولية لفشل اللجنة، ومن ثم التنصل من أى التزامات إثيوبية إزاء الاتحاد الأفريقى. أما الافتراض الأول، فرغم أنه مشكوك فى جديته، لا يفرض على مصر أى تبعات غير أن تكون جادة فى تشكيل اللجنة الفنية التى تم الاتفاق عليها فى القمة الأفريقية المصغرة، وأن تطرح أمام اللجنة كل الأوراق التى تؤكد قانونية المطالب المصرية وشرعيتها، وأن ترفض بالمطلق التنازل عن أى حقوق مصرية، وأن ترفض بالمطلق الادعاءات الإثيوبية الخاصة بمسألة «الحقوق السيادية» فى مياه نهر النيل، وأن تحرص على كسب تقدير واحترام الدول الشريكة فى عضوية هذه اللجنة تحسباً لأى مخطط إثيوبى لإفشالها. أما الافتراض الثانى فهو الأهم والأجدر أن يؤخذ فى الاعتبار، وعليه فإن مصر يجب أن تحرص على المضى قدماً فى مسارى التفاوض عبر الاتحاد الأفريقى وعبر مجلس الأمن، شرط أن تدرك أن رهانات إثيوبيا بالأساس على الاتحاد الأفريقي، باعتبارها دولة المقر بالنسبة لمنظمة الاتحاد الأفريقي، وهى تحظى بعلاقات أفريقية مميزة خاصة مع دول حوض نهر النيل، وتحاول استفزاز كراهية هذه الدول لما يسمى ب «الإرث الاستعمارى» الذى تروج له بالنسبة لحقوق مصر المائية، وتحرص على أن تحصل على دعم هذه الدول للموقف الإثيوبى، على نحو ما ورد على لسان وزير المياه والرى الإثيوبى سيليشى بيكيلى فى أثناء اجتماع له أمام قادة الأحزاب السياسية ورجال الدين عندما قال إن إثيوبيا «لن تعترف بالحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل، وتجد تأييداً ومساندة فى هذا الإطار من دول حوض النيل» فى إشارة إلى أوغندا وكينيا اللتين ينبع من أراضيهما وبحيراتهما «بحيرة فيكتوريا» النيل الأبيض. لكن الأهم هو أن تدرك مصر أن معركتها الأساسية مع إثيوبيا ستكون فى مجلس الأمن، وربما مع محكمة العدل الدولية، ولكى تكسب مصر هذه المعركة عليها أن تجيب عن الأسئلة الصعبة التى ستحسم الإجابة عنها ما يمكن أن تئول إليه هذه المعركة من مكاسب أو خسائر وفى مقدمتها: كيف تجرأت إثيوبيا على مصر إلى هذا الحد؟ من يساندها؟ وما هى المصالح التى تتخفى وراء تلك المساندة؟ وكيف يمكن تفكيك المواقف الدولية والإقليمية الداعمة للأطماع الإثيوبية ؟ أسئلة قد تكون معقدة لكن الإجابة عنها يمكن أن تشكل أجندة العمل المصرية للدفاع عن أمن مصر ومصالحها المائية، التى هى بالمناسبة، مصالح حياتية. نقلا عن صحيفة الأهرام