د. جابر عصفور قد يكون مُبرَّرًا أن تقبل لجنة صياغة الدستور التى رأسها عمرو موسي، نص المادة الثانية من دستور1971، استنادًا إلى تفسير المحكمة الدستورية لمبادئ الشريعة الإسلامية بأنها: هى المبادئ والقواعد الكلية وليست الجزئيات التفصيلية المرتبطة بهذا الغرض أو ذاك من الناحية التاريخية. لكن أن تنقل لجنة عمرو موسى المادة السابعة من دستور الإخوان، ومن ثم تخص الأزهر بالاهتمام، وتُمهِّد الطريق له ليستعيد هيئة كبار العلماء، فهذا أمر يثير التعجب. أولًا لأن المادة تنص على تحويل معهد دينى إلى سُلطة دينية لا يُعترف بها فى تقاليد الإسلام العقلاني. ولسنا فى حاجة إلى البحث كثيرًا، فهاهو الإمام محمد عبده يؤكد أن الإسلام لم يعرف سُلطة دينية قط إذ يقول: ليس فى الإسلام سُلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهى سُلطة خوَّلها اللّه لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوَّلها لأعلاهم يتناول بها مَن أدناهم... فليس فى الإسلام سُلطة دينية بوجهٍ من الوجوه. أما تلك المادة فإنها تضع الأزهر الشريف منزلة السُّلطة الدينية وتراه هيئة إسلامية مستقلة جامعة... يتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين، يضاف إلى ذلك أن تلك المادة تضع على رأس الأزهر، هيئة كبار العلماء. وهى هيئة لها تاريخ لم يكن إيجابيًّا أو مُحايدًا على الإطلاق. وللأسف فهذه الهيئة هى التى حاكمت الشيخ على عبد الرازق وقضت بطرده من الأزهر وإسقاط درجة العالمية عنه، ومن ثم فصله من جميع مناصبه وكذا فصله من منصبه فى القضاء الشرعي، فضلًا عن حرمانه من أى وظيفة أخرى دينية أو مدنية داخل دولة مصر. وكان حكم هيئة كبار العلماء سنة 1925 مثيرًا لاستياء وغضب المسلمين الذين يعرفون معنى الاختلاف وأحقية الاجتهاد فى الإسلام، ولذلك ظلت ذكرى هيئة كبار العلماء ذكرى مرتبطة بالتحالف بين الجامدين من رجال الأزهر وأنصار السياسات الاستبدادية فى الدولة. وكان من الطبيعى أن يقوم عبد الناصر بإلغاء تلك الهيئة، ومحاولة تغيير نظام الأزهر وتكوينه بما يسمح له بأن يؤدى دوره فى مصر الناصرية. ومرت الأيام ونسى الناس تاريخ تلك اللجنة وأسباب وجودها وما ارتكبته من إلغاء للدستور ولمعنى الدولة الحديثة على السواء. ولا أدرى لماذا ورَّط عمرو موسى نفسه فى إضافة المادة الخاصة بالأزهر. الغريب أننى لا أزال أذكر أننا عندما اجتمعنا مع عدد بعينه من علماء الأزهر (برئاسة الشيخ أحمد الطيب، ودعوته فى آن) وتناقشنا وإياهم فى حوار خلاق كان من نتائجه إصدار الوثيقة الأولى من وثائق الأزهر، وقد حملت هذه الوثيقة نصًّا صريحًا يؤكد أن مصر دولة وطنية دستورية ديموقراطية حديثة. ولا أنسى هذا النص من الوثيقة الأولى التى أصدرها الأزهر فى العشرين من يونيو سنة 2011، لكن يبدو أن مُمثلى الأزهر نسوا النص على أن مصر دولة وطنية دستورية ديمقراطية حديثة. صحيح أن النص كان يحاول الهروب من لفظ: دولة مدنية، ولكن معنى الدولة الوطنية فى آخر الأمر وإلحاقها بصفات الدستورية والديموقراطية الحديثة، لا يتباعد كثيرًا عن معنى الدولة المدنية بل يكاد يكون إياه. لكن عندما أعود إلى النص الخاص بدور الأزهر المنصوص عليه فى الدستور، فإنى أجد المادة كلها من قبيل التَّزَيُّد والاستبعاد المُتعمد لعلاقة الاتجاهات المدنية بالدين. كما لو كان الدين شأنًا لا يعرفه ولا يعمل به ولا يكتب عنه أو يدرسه إلا كبار علماء الأزهر، وهذا غير صحيح. فما أكثر الذين كتبوا فى تاريخ الفقه الإسلامى ومذاهب التفسير وليسوا من علماء الأزهر ابتداء من المستشرقين الألمان على وجه التحديد، وانتهاء بالمسلمين الذين ينتسبون إلى الكليات المدنية فى الجامعات المصرية، والذين حصلوا على الدكتوراة فى العلوم الدينية من جامعات عالمية، وترجموا عن المستشرقين كتابات تشهد بعلو شأنهم وعظيم إنجازهم. ولو قَصرنا العلم بالدين أو حتى قَصرنا تجديد الخطاب الدينى على رجال الدين وحدهم، لاستبعدنا طائفة كبيرة من العلماء المزودين بأساليب منهجية وأدوات علمية ليست متوافرة فى رجال الأزهر التقليديين. ولذلك فنحن نقول: إن دراسة الأديان ودراسة الخطاب الدينى يستوى فيهما أن يكون الدارس أزهريًّا أو غير أزهري، وإن أية محاولة لقصر درس الخطاب الدينى أو تجديده على علماء الأزهر فحسب، إنما هى تجاوز للعلم نفسه وإفساد له على السواء. ولذلك فإن مادة الدستور عندما تنص على أن الأزهر الشريف «... يختص دون غيره بتولى الدعوة الإسلامية ونشر علوم الدين واللغة العربية، فإن النص نفسه يبدو مُجافيًا للواقع ومُضادًّا للدستور نفسه فى بقية مواده. ولكن ما الذى جعل لجنة دستور عمرو موسى تقع فى هذا الخطأ وتُعطى للأزهر ما ليس له حق فيه؟ فى تقديرى أن الأمر يرجع إلى الوقوع فى شراك الخطاب النقيض ، فقد وضعت اللجنة نصب عينيها دستور الإخوان الذى قاد صياغته المستشار حسام الغرياني. وحاولت اللجنة, ربما إرضاء للأعضاء المُمثلين للمؤسسات الدينية والمتحالفين مع التيارات السلفية نقل هذه المادة من دستور حسام الغرياني. والمفارقة الساخرة حقًّا أن النوايا الإخوانية كانت وراء صياغة هذه المادة لغرض فى نفسها، وهو إزاحة الشيخ أحمد الطيب من منصبه بعد أن يكتمل لها الأمر والهيمنة، لتُحل محله الشيخ عبد الرحمن البر الذى كانت تعده لكى يكون شيخًا للأزهر. لكن الحمد لله فقد أنجانا الله مما كان يبيته الإخوان، ومن وجود عبد الرحمن البر نفسه، خصوصًا بعد أن أصبح طريد العدالة. لكن يظل التساؤل الأساسى باقيًا وهو: هل الأزهر سلطة دينية؟ بالقطع: لا، والدليل على ذلك نصوص صريحة من القرآن ابتداء من قوله تعالي: وكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا «(الإسراء: الآية 13)، وقوله: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا» (فصلت: الآية 46) وقوله: « لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ...» (البقرة: الآية 386). (وللمقال بقية). نقلا عن صحيفة الأهرام