ترى كيف يكون الربيع صامتا؟.. وإذا كتبت الأقدار الصمت على الربيع، فأين تذهب شقشقة العصافير.. وهديل الحمام وسجع اليمام.. وانتفاضة الشجر بالأزهار والبراعم والثمار بعد إغفاءة طويلة من سبات الشتاء.. هذه التساؤلات طرحتها الكاتبة الأمريكية راشيل كارسون ، في مقدمة كتاب " الربيع الصامت "، الذي صدر عام 1962، والذي يُعد كتابا مفصليا في تاريخ البشرية، حيث كشف لأول مرة جرائم الإنسان ضد البيئة، فكان بمثابة الشرارة التي أثرت في حركة الوعي البيئي على نحو لم يعرفه العالم من قبل. في كتابها، حذرت كارسون من مغبة الاستخدام "غير الرشيد" ل مبيدات الآفات ، وذكرت أنه ما إن تدخل هذه المبيدات دائرة المحيط الحيوي الذي يضم الكائنات الحية من نبات وبشر وحيوان، فلا يقتصر أثرها على قتل الحشرات أو الآفات؛ بل يمتد إلى سلسلة الغذاء الذي تقتات عليه تلك الكائنات الحية فتهدد بقاء الطيور والأسماك، ومن ثم البشر. هذا الكتاب بيعت منه أكثر من مليوني نسخة آنذاك؛ وتمت ترجمته إلى لغات عدة، منها العربية، على يد عالم الوراثة الراحل د.أحمد مستجير، وكان من أول ثمار توابعه انعقاد أول مؤتمر دولي للبيئة في استوكهولم عاصمة السويد عام 1972.. ولو امتد الأجل ب"كارسون" حتى ترى وتسمع اليوم، كيف أن الحجر الصحي والإغلاق التام لأغلب الصناعات في العالم، قد أسهم في أن الربيع لم يعد صامتًا، إلى حد ما بالطبع في بعض، وليس كل مدن العالم، فمن مآثر كورونا على كثرة مثالبها، أن طبقة الأوزون قد التأمت، وشوارعنا شهدت بعض "بعض" الهدوء لتوقف حركة السير والمركبات، وكثير منا استعجل الصيف بعدما استطال الشتاء وأمطاره، وعادت من جديد أصوات العصافير إلى أغصان الشجر، وغير ذلك من مظاهر تعافي البيئة برًا وبحرًا وجوًا، والتي من المؤكد أن الإنسان هو سبب اعتلالها.. أصوات الطبيعة لاشك تؤثر علينا بشكل إيجابي، واستعاد الكثيرون الإنصات لها خلال حالة الإغلاق العام وتطبيق إجراءات الحجر المنزلي، وهناك قياسات حديثة في خلال شهر إبريل الماضي، في إطار دراسات الضوضاء في مدينة نيويورك استطاعت رصد أصوات طبيعية مثل أصوات حفيف أوراق الشجر والرياح وخرير المياه والطيور، والتي يقع نطاقها تحت مستوى 50 ديسيبل، حيث كانت محجوبة بسبب ضجيج البشر وصخب الحياة. تقاس شدّة الصوت بالديسيبل، وكلما زاد مؤشره زادت الضوضاء. وكل شيء تقريبًا يُصدر ضوضاء يمكن قياسها، فمثلا، يبلغ ضجيج التنفس 10 ديسيبل، والمحادثة العادية 60 ديسيبل، وأصوات المركبات عادة ما تقع في نطاق 60 100 ديسيبل بينما تبلغ شدة ضجيج صفارات الإنذار 120 ديسيبل. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية؛ فإن التعرض المنتظم لضجيج يبلغ 85 ديسيبل وأكثر من ذلك يعتبر خطرا، وأن سماع أصوات تبلغ شدتها 100 ديسيبل "كالأعمال الإنشائية والصناعية" لمدة 15 دقيقة في اليوم؛ يؤدي إلى فقدان السمع بشكل دائم. تشير كثير من الأبحاث التى أجريت حول فوائد الأصوات الطبيعية إلى نظرية "استعادة الانتباه"، ونظرية "التعافى من الإجهاد" والتى تؤكد قدرة الجسم والدماغ على التعافى من الإجهاد، لكن الغريب أن تخلص دراسات أخرى إلى أن ضجيج المدن مريح بالنسبة للبعض، وهو ما يفسره شعورهم بالضجر من طول البقاء فى المصايف والمنتجعات والحنين إلى صخب المدينة!. طبعًا شوارعنا استثناء، فما زالت ضوضاء البشر، كما هي، حتى في خلال ساعات الحظر، الذي يوشك أن يتقلص، وطبيعي أن يقطع سكون الشارع "سارينة" سيارة أو بائع أنابيب بوتاجاز، كما أسمعه في التو واللحظة، والآفة الكبرى أن غالبية، إن لم يكن؛ كل الباعة الجائلين وتجار "الروبابيكيا" يحملون مكبرات صوت لترويج بضاعتهم دون وازع أو رقيب، ولا يعنيهم سكون ليلك أو هدوء صباحك أو "قيلولتك".. لكننا لم نكن هكذا دوما، فقبل 100عام.. كانت مدينة القاهرة تحكمها لوائح وقرارات صارمة وترفع شعار لا للعشوائية.. كانت لدينا لائحة للسيارات، ولائحة للترام، ولائحة حتى لركوب الأتوبيس، ولائحة لنظافة الشوارع، ولائحة تحكم عمل الباعة الجائلين تحظر عليهم رفع أصواتهم بالنداء على بضاعتهم وقت القيلولة، ولوائح لعمل الشيالين وماسحي الأحذية!! كما عرفت القاهرة منذ مائة عام بعض اللوائح الإنسانية، مثل لائحة منع القسوة مع الحيوان، ولائحة إطلاق الأعيرة النارية، وأشد ما يثير الإعجاب والانتباه في بعض هذه اللوائح، تلك التي كانت تنظم عمل الباعة "السريحة" التي أصدرتها وزارة الداخلية عام 1915، أنها كانت تشترط لصرف رخصة لمزاولة العمل لهؤلاء الباعة جملة من الشروط، من حيث السن والصحة والمؤهل، والأهم هو الشرط الأخلاقي؛ وهو أن تكون صحيفة سوابقه بيضاء!. نتمنى عودة هدوءنا المفقود في ربيع غير صامت؛ ولكن من دون كورونا ..