تحتفل مصر بالذكرى ال 60 لثورة 23 يوليو عام 1952، الثورة التى أعلنت رفض الملكية ورفض سحق البسطاء ورفعت راية التحرر التى أضاءت الطريق للعديد من الشعوب المستعمرة حول العالم. ورغم مرور كل هذه السنوات، أغفل الكثيرون دور المثقفين في صناعة ثورات بلدانهم، هؤلاء الذين قالوا "لا" حتى صنعوا مساحات واسعة داخل الوعي العام بدور الحرية والحقوق الإنسانية، وتعريف طبقات المهمشين بدورهم المؤثر في صناعة الحياة، هؤلاء صنعوا على مدار التاريخ قوة ناعمة استطاعات أن تحقق بعض أهداف البسطاء. ويشرح الكاتب السياسي المصري الراحل محمد سيدأحمد، كيف تطلعت طبقات الشعب المصري في أعقاب ثورة 1919 للتحرر من الإستعمار، واستغلال مواردها القومية، ورأى أن دائرة المثقفين كانت محدودة لحرص المستعمر على حصر الثقافة في فئة من الصفوة تساند المستعمر وتبث مفاهيمه، وبانتقال السلطة إلى دولة يباشر أعمالها مواطنون مصريون، كان لابد من نشر قدر من التعليم وانتشار قدر من الثقافة. ويرى سيدأحمد أن الاستعمار كان لا يسمح بتطوير المجتمع حيث لم تكن الصناعة تتطور إلا بالقدر الذي يخدم مصالحه، كما كان المستعمر يحول دون تنمية المهارات واكتساب القيم الثقافية الملازمة للتطور الصناعي. كان المثقفون مجتمعين على أهمية استبعاد الملك، وتطهير الأحزاب وإجراء إصلاح زراعي يمس كبار الإقطاعيات، ولكنهم في الوقت نفسه لم يعترفوا بمشروعية السلطة الجديدة التي أتت الثورة بها، غير أن إنجازات الثورة أجبرت المثقفين على تأملها. ويرى الروائي المصري الراحل والحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ أن "مبادئ ثورة يوليو وأهدافها انسانية وعظيمة وطالما حلم بها وتمناها كل المصريين، ولكن ما حدث هو أن الثوار لم يكونوا على مستوى الثورة ومبادئها". ورغم ذلك يرى محفوظ، أن خطأ عبدالناصر الأكبر هو أنه أضاع فرصة تاريخية نادرة؛ لينقل مصر نقلة حضارية هائلة، أشبه بما حدث في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت كل الظروف مهيأة له. بينما هاجم الفيلسوف والمفكر عبدالرحمن بدوي قبل وفاته النظام المصري إبان حكم الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، معتبرًا أن حجم المشاركة الجماهيرية الكبير في تشييع جنازة عبدالناصر لا يدل على وجود علاقة حب بين المصريين وعبدالناصر. وعلى الجانب الآخر، يرى الكاتب الكبير صلاح عيسى أن الثورة لا يمكن تقييمها بأسلوب "البقالين" من خلال دفتر الوارد والمنصرف، ليقول كسبنا هذا وخسرنا ذاك، فهذه طريقة خاطئة تماما في الحساب، ولو كان لنا أن نسأل ماذا بقي من ثورة يوليو فلنسأل وماذا بقي من الثورتين الفرنسية والأمريكية وثورة 1919؟ وتابع عيسى "طبيعي أن نجد المصانع التي بنتها الثورة قد تحولت إلي خردة، فقد استهلكت وانتهي عمرها الافتراضي، وحلت محلها أخرى أكثر حداثة وتطورا. وأضاف أن الثورات لا تقدر قيمتها هكذا، وإنما بمجموعة القيم التي تتركها لتاريخ شعوبها، وثورة 23 يوليو تركت قيما كثيرة ومهمة لمصر أولها الاستقلال الوطني وهدم الهرم الاجتماعي القديم، فقد كانت مصر قبلها تقوم على هرم اجتماعي طبقي مغلق لا يسمح بالتسرب بين طبقاته، فضلا عن إلتزام الدولة برعاية مواطنيها. ويؤكد عيسى أن ثورة 1952 واحدة من أهم أحداث القرن العشرين، حيث تجاوز تأثيرها مصر، فهي لم تحرر مصر فقط من الاستعمار ورأس المال الأجنبي، وإنما كانت دافعا ومساعدا لتحرير الوطن العربي كله، وأنهت عالميا ما كان يعرف بالاحتلال المباشر، ولعبت الثورة هذا الدور الملهم في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لتنهي الاستعمار القديم. وكان الكاتب الراحل أحمد حمروش -أحد أهم مؤرخي ثورة يوليو- يرى أن الثورة كانت مطلوبة ضد الاحتلال البريطاني وفساد النظام الملكي والفروق الطبقية الحادة، إضافة إلى غياب الديموقراطية، فكان كلما انتخبت حكومة وفدية شعبية يقيلها الملك، ولذلك كانت الثورة حتمية. ويضيف أن الثورة ذهبت، وبقيت منها أفكار غرستها في نفوس الشعب المصري، والدليل هو ذلك التأييد الجارف الذي حصلت عليه الثورة في بداياتها أيام محمد نجيب وعبد الناصر، ولنذكر جنازة عبدالناصر التي لم يشهد لها العالم مثيلا، والتي كانت نوعا من التقدير لهذا الزعيم وللثورة ومبادئها. وأيا كان الرأي والرأي الآخر، فإن الثورات في مختلف بلدان العالم يصنعها ويحركها ويؤرخها المثقفون على مر الأجيال، هؤلاء المنادون دائما بالحريات والحقوق لكافة المواطنين، وهم وحدهم عادة من يدفعون الثمن أمام كل الأنظمة. ثورة يوليو مر عليها 60 عاما ومازالت في الذاكرة الجمعية للشعب المصري، وستبقى كذلك جزءا من وجدان المواطن المصري البسيط، أيا كان حجم المختلفين والمؤيدين لنظام عبدالناصر وثورة يوليو، وسيظل المثقف المصري هو المحرك الدائم ووقود الثورات الرافضة للقمع وسلب الحريات على مر العصور ليبقى بأفكاره وشعلته التي يحملها صانعا لتاريخ أمته.