كعادتي، أُطلُّ من الشُرفة، باسمَ الثغر لما تقعُ عليه عيناي من صغارٍ يتخذون من لعبةِ كُرةِ القدمِ جَدًّا، يبذلون قصارى جهدِهم في إحرازِ الأهدافِ وكأنها مسألةُ حياةٍ أو موت، أتذكَّرُ جيدًا حينما كُنْتُ أحدَهم، أسابقُ ذراتِ الهواءِ كي أستفردَ بالشبكة، كما أذكرُ قلقَ والدتي عليَّ حين التوى كاحلي الأيمن ومنعني الطبيب من اللعبِ لأشهرٍ طويلة، لرُبَّما لو عرفَت أني لم أُنصتْ له حينها وأن استمراري في مُمارسةِ اللعبةِ بعدها هو سببُ رقودي المُتكرِّرِ لن تُسامحَني أبدًا، لكن كيف ولا أحد سواي يعلم؟ يظهرُ طفلانِ من باب عمارتِنا، وَلَدٌ يكبرُ أختَه بحوالي العامين، تقعُ عليهما عيناك فينشرحُ لهما صدرُك رغمًا عنك؛ حين ترى كيف يُمسكُ بِيَدِك أختِه مائلاً برقبتِه قليلاً؛ فتصل أُذنُه إلى فمِها ليسمعَ إجابتِها عن سؤالِه فيما تريدُ من الحلوى. أنظرُ خلفِي فأجدُ زوجتي قد اتخذت مكانَها على الكرسي الأقرب إلى التلفاز مُمسكةً بقلمِها، حركتُها تدلُّ على أنها لم تندمجْ في الكتابةِ بعد، لكنها سرعان ما ستدخلُ عالمَها وستخرجُ بعدها بكنزٍ كعادتِها. أتمعنُ النظر فترتسمُ ابتسامتي لتمسُّكِها بالقلمِ الذي اشتريْتُه هدية لها، من يومِها لم تعدْ تكتبُ سوى به، ورغم حُبِّها لتغييرِ الأقلامِ كثيرًا فإنها صارت تُخبرُني أن هذا القلمَ بالذاتِ يجلبُ الأفكارَ إلى رأسِها من حيث لا تدري، نضحك سَوِيًّا وكلانا يعلمُ في قرارةِ نَفْسِه أنها لا تتركُه لأنه يجعلُها تستشعرُ وجودي معها في كُلِّ حرف، وأن نجاحَها هو نجاحُ كلينا رغم أنه يخصُّها، كم هي عظيمة بحق! دائمًا ما أحمدُ الله الذي رزقني إيَّاها، وأسعدُ بنجاحاتِها المُتكرِّرة، كما أفخر بحُسنِ تربيتِها لصغيري الغاليين. ها هي ذي قد انتهت من رحلتِها، تنظرُ إليَّ بعينيها الحانيتين فأشعرُ وكأنها تضمُّني، ثُمَّ تبتسمُ فأُدركُ رضاها عمَّا كتبت، وأُحالُ طفلاً يهرولُ إلى أمِّه مُشتاقًا لعناقِها الدافئ. أبدأُ في قراءةِ ما أنجزت للتو؛ فأنا ناقدُها الأول، أنغمسُ في الحروفِ فيزدادُ اتساعُ ابتسامتي كُلَّما تعمقت، فأستشعرُ هدوءَ أنفاسِها لرضاي عما كتبت، وعندما أنتهي أنظرُ لطفلتي الرائعة، وأطبعُ قُبلةَ فخرٍ على جبينِها. السابعةُ وتسعُ عَشرةَ دقيقة صباحًا، مَوعِدُ خروج الفاتنة من بيتِها، أُسرعُ إلى النافذةِ فأسترقُ النظرَ إليها وهي تمشي بخُطىً واثقة، مُرتديةً ملابسها الأنيقة الزاهية، في اتجاهِها إلى المَشفى العامِ بالبلدة، ورغمَ أن عملي في مكتبِ المُحاماةِ خاصتي يبدأُ بعد ذلك بساعةٍ أو أكثر، فإن الكسلَ لم يُصبْني يومًا كي يمنعَني عن رؤيتِها. أيتها الطبيبةُ الكاتبة، يَومًا ما ستصيرين زوجتي، وسأسردُ لكِ كثيرًا من المشاهِدِ التي تخيلْتُها برفقتِك، ستكون حياتنا معًا دربًا من الخيال، وسأهديك القلمَ الذي اشتريْتُه كي تخطي أفكارَكِ به. عزيزتي، أثقُ بكِ أكثر من أيِّ شئ، كما أؤمن بعظمتِك، وأعدُكِ أني سأشددُ أزرك، وسأخطو معكِ في رحلتِك، وتأكدي أن لا أحد سيفخرُ بكِ مثلي؛ فأنتِ الوحيدةُ التي ستظلُّ أبد الدهرِ مُتربعةً على عرشِ قلبِي.