ضحايا ومصابون ودماء وتحطيم وخراب.. كل هذا لم نسمعه أو نشاهده في حادث مروري أو سطو مسلح على أحد البنوك، لكنه حدث داخل ملعب كرة قدم.. في بورسعيد المدينة الباسلة التي تصدى أهلها للعدوان، نجد بينهم من يخرب من أجل كرة القدم، حدث ذلك في لقاء الأهلي والمصري، وأسفر عن 71 ضحية. شغب الملاعب ليس بالجديد بل هو موجود في كل مكان بالعالم، لكن ما ينقصنا في مصر هى التنبؤ بحدوث الكارثة وكيفية معالجتها.. والدليل أن هناك مجموعة من الشواهد حدثت قبل وفي أثناء المباراة كانت كفيلة بإلغائها أو على الأقل اتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة. في إنجلترا.. كانت هناك مجموعة من روابط المشجعين تسمى "الهوليجانز"، بدأ الأمر معهم كمجموعة تشجيع عادية، لكن تطور الأمر ليفوق حدود تشجيع كرة القدم إلى آفاق الجريمة.. وأصبح هناك صراع دام يحدث بين جماعات الهوليجانز المنتمية لأندية مختلفة قد ينتهي بمصرع البعض. وبلغت العصبية الكروية معهم مداها وصار الأمر أشبه بالحرب المستعرة بين تلك الجماعات وتحول التشجيع إلى قتال، وكانوا يطلقون على تلك العصابات اسم شركات وهي شركات لا تبغي للربح لكنها تسعى إلى الشهرة فقط. كان هوليجانز فريق ليفربول الإنجليزي الأقوى في عصر ما، لكن ضعفت شوكتهم بعد أن شاهدوا مصرع قرابة الثلاثين فردا منهم في حادثه نهائي كأس الأندية أبطال الدوري عام 1985 في استاد "هيسل" في بروكسل في المباراة التي جمعت فريقهم مع يوفنتوس الإيطالي والتي انتهت بفوز الأخير بهدف نظيف. فقد أدى عنف الهوليجانز الخاسر إلى تحطم وانهيار أجزاء من الاستاد، مما أدى إلى الكارثة، لكن أجهزة الأمن في انجلترا تعاملت مع الأمر بشدة وحزم.. اعتقلت كل من تسول له نفسه تخريب أو تدمير منشأة أو ازهاق روح لا ذنب لها، ولولا ذلك ما استطاعت السيطرة. كانت قوات الشرطة الإنجليزية المكلفة بتأمين المباريات تتعامل بالعصا مع أي فرد يخرج عن أطر التشجيع المألوفة، بل كانت تتخذ كافة الإجراءات التأمينية اللازمة لخروج فريقين متنافسين وجماهيرهم في أمان على الرغم من أن ملاعب الكرة الإنجليزية أكثر انفتاحًا من مصر، فالمدرجات لا يفصلها عن الملعب سوى "التراك". الهوليجانز تم السيطرة عليهم، أما في مصر فنبحث عن الحجج، أغلب أفراد الأمن لا يفرق بين التعامل مع بلطجى والتعامل مع شخص عادي، ومن هنا تزداد الكارثة. وبالنظر إلى ما حدث بالأمس، فإن هناك شواهد كثيرة تؤكد على أن الكارثة كانت سوف تحدث.. ويضعنا أمام تساؤلات عديدة، لابد من الإجابة عنها وإلا سوف يحدث ما لا يحمد عقباه. المشهد الأول حدث قبل بداية اللقاء، عندما نزل لاعبو الأهلي لإجراء عملية الاحماء، والقت جماهير المصري الشماريخ وكادت احدى الشظايا أن تصيب حسام عاشور لاعب الأهلي.. مما أضطر اللاعبون إلى إجراء الإحماء في منطقة صغيرة من الملعب بعيدة عن الجماهير، واعتقد البعض أنها مشاحنات عادية تصدر من قلة من الجماهير بهدف تشتيت تركيز لاعبي الأهلي. المشهد الثاني.. كان قبل بداية المباراة مباشرة، نزلت مجموعة من الجماهير (أكثر من 15 فردا) إلى أرض الملعب ومعهم أقفاص الحمام ليطلقوها في الهواء دليل على الروح الرياضية والسلام والمودة.. وهو ما حدث عكسه تماما.. لماذا تقوم الجماهير بذلك، أليس هناك منظمون للمباراة؟ واذا حدث فلماذا كل هذا العدد. المشهد الثالث.. في منتصف الشوط الثاني، كان من ينظر إلى أرض الملعب لا يستطيع التمييز بين اللاعبين والأجهزة الفنية والجماهير، حيث تواجد أكثر من شخص حول دكك بدلاء الفريقين، ومن الواضح جدا أنهم من الجماهير.. الذين يسيرون حول الملعب وكأنهم في نزهة أو يمرون لمتابعة أحد المشاريع الخاصة بهم. في الوقت نفسه كان بدلاء الأهلي يجرون عمليات الإحماء خلف المرمى استعدادا للتبديل، وكان ذلك وسط مجموعة أخرى من الجماهير.. وإذا عدنا لمشاهدة الموقف لوجدنا سيد حمدي مهاجم الأهلي وقد فقد تركيزه تمام أثناء إجراء الإحماء وكان يلتفت حوله بين الحين والآخر، خوفا من أن يتلقى أى أذى، في حين وقف شهاب الدين أحمد يتلقى تعليمات من جوزيه وهو في حالة يرثى لها وكأنه لا يرغب في النزول إلى أرض الملعب. وعلى الرغم من ذلك، هناك حالة من الاصرار على استكمال المباراة، ولا علاقة هنا لفهيم عمر حكم اللقاء بالأحداث، فالأمر أكبر بكثير منه ولو حدث وألغى المباراة ما خرج من المدينة الباسلة سالما وما استطاع أحد تأمينه. المشهد الرابع.. فجأة ودون أي مقدمات نزل أحد مشجعي المصري إلى أرض الملعب وفي يده "شمروخ" يجول به في الملعب، حتى سيطرت عليه أجهزة الأمن، ولا يزال هناك اصرار على استكمال المباراة في أجواء مليئة بالتوتر. وأخيرا أطلق الحكم صافرة النهاية، وليته ما أطلقها، اندفعت الجماهير إلى أرض الملعب فى اتجاه لاعبي الأهلي الذين جروا مسرعين إلى غرفة خلع الملابس، لكن تبعتهم مجموعة لم يستطيع أفراد الأمن السيطرة عليها.. أليس هناك خطة لمثل هذه الأمور، ولماذا لا يتم التدخل والتصدي بعنف في هذه الحالة. ورغم إعلان اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية عن أن هناك أوامر صارمة لجميع أفراد الأمن بالتصدي لأي أعمال عنف بشدة وحزم، لكن شيء لم يحدث. انقذت العناية الألهية لاعبي الأهلي من بطش جماهير البورسعيدية، لكن الجماهير الحمراء دفعت الثمن وراح أكثر من 70 قتيلا بسبب الشغب، والسؤال، لماذا لم تشكل أجهزة الأمن سياجا على جماهير الأهلي كما حدث في لقاء المحلة، ولماذا تم فتح الباب الحديدي الذي يفصل جماهير الناديين، بل تم فتح الباب في اتجاه الملعب لتنزل جماهير الأهلي إليه وتتلقي مصيرها، أم أن النزول كان بغرض تجميعهم للتأمين. بعد الأحداث خرج كل من له يد للتحدث في الأمر وكثرت الآراء.. فالغالبية ألقت المسئولية على "فلول الوطني" كالعادة في أي أحداث، ولماذا لا نخطط للتصدي لهؤلاء الفلول من أجل إنجاح ثورتنا.. حزب الحرية والعدالة يطالب بالقصاص من هؤلاء، ويؤكد أنهم السبب في جميع الكوارث. أما القوات المسلحة طالبت الجماهير بالخوف على مصر واتقاء الله فيها وجيشها وعدم إلقاء اللوم على أفرادها بعد أي حادث، وكيف لا يلقون باللوم والمواطن البسيط في حاجة إلى من يحميه. جماهير الكرة تعلن أنهم ليسوا بلطجية أو مثيري شغب ودائما ما يحدث في القاهرة أو بورسعيد أو المحلة أو أي مكان جماهيري يكون السبب وراءه أشخاص لا يعرفهم أحد.. ويؤكد الجالسون في المدرجات أن من فعل ذلك ليس منهم.. كيف؟ وسمير زاهر رئيس اتحاد الكرة يصر على استكمال الدوري ويخرج لسانه للفلول الذين يريدون الخراب لمصر.. ولا أحد يعرف أحد أيهما يوصف بالفلول ولماذا الإصرار على إقامة المباريات في هذه الأجواء، كان عليه أن يتنبأ بحساسية كل مباراة قبل إقامتها، وهو الرأس الأكبر في المنظومة الكروية. وفي مسلسل إثبات الشجاعة الكل يحاول أن يثبت قدرته على فعل المستحيل، وبالتالي أجهزة الأمن تصر على أنها قادرة على التأمين وبناء على ذلك تقام المباراة وتهدر الدماء وسط تأمينات مشددة. أمام الإصرار من اتحاد الكرة وأجهزة الأمن وصل الأمر إلى أن أغلب رؤساء الأندية أعلنوا تجميد النشاط الرياضي.. ليته يكون حلا. الطرف الأخير هم اللاعبون ولا يختلف حالهم عن حال الجماهير، ولم يجدوا أمام كل هذا إلا أن أغلبهم أعلن عدم لعب الكرة إلا بعد استقرار الأوضاع، ومنهم عمرو زكي وأحمد حسن لاعبا الزمالك، أما لاعبى الأهلي فهم في حالة لا يرثى لها، فقد عاشوا أكثر من خمس ساعات وسط الموتي في حالة رعب وكل منهم يتخيل أنه كان من الممكن أن يكون واحدا من الضحايا، لذلك أعلنوا عن عدم لعب الكرة إلا أن يأتي حق الضحايا. بعد الكوارث، الكل يبحث عن كبش فداء، ولا أحد يفكر في كيفية توقع الأزمة والتصدي لها قبل اندلاعها، ستظل إدارة الأزمات في مصر شئ من المستحيلات، وسنظل ننتظر حتى آخر اللحظات لنتحرك وسيظل دم المصريين يدفع ثمنا للفوضى.