د. حاتم عبدالمنعم أحمد المركزية الجغرافية.. من أبرز ملامح الشخصية المصرية طبيعيًا وإداريًا - كما يقول الدكتور جمال حمدان في كتابه الموسوعة "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" - وهي صفة تعود لعهد "الأهرامات"، وترقد الطبيعة بوضوح خلف هذه الظاهرة؛ حيث يتبلور الوادي الضئيل داخل شرنقة الصحراء الشاسعة، وتجسمه حول النيل يجعله جسمًا ونسيجًا ضامًا، وترجع تلك المركزية الصارخة لعدة أسباب من أهمها ما يلي: 1- إذا تناولنا بالتحليل الجغرافي كلًا من الوادي أو الدلتا على حد ة نجد أن كليهما ينقصه البؤرة المركزية، بل إنهما فيما بينهما يخلقان مركزية حادة عند التقائهما في منطقة القاهرة، فهي خاصرة الوادي بكل معنى الكلمة. 2- الطرق الصحراوية بين الشرق والغرب على طول السواحل الشمالية تنثني جنوبا مستهدفة القاهرة لتحاشي صعوبة اختراق الدلتا بشبكة الترع المتراصة؛ ولذلك تبدو القاهرة كخاصرة الصحراء؛ مثلما هي خاصرة الوادي فكل الطرق تؤدي إلى القاهرة، لذلك فهي عنق الزجاجة وعنق مصر، وهي من الناحية الهندسية البحتة مركز الثقل الطبيعي، ومن الناحية الميكانيكية نقطة الارتكاز التي يستقطب حولها ذراعا القوة والمقاومة من شمال وجنوب، ومن الناحية الحيوية نقطة تبلور من الناحية الوظيفية ضابط الإيقاع بين كفتي مصر، وفي النهاية تبدو كما لو كانت موقعًا من اختيار الإله. 3- المركزية البشرية: ما سبق كان من حيث الشكل، ولكن المضمون لا يقل أثره أيضًا في التوجه نحو المركزية، فقد لا يكون موقع القاهرة متوسطًا من حيث المسافة المطلقة بين الشمال والجنوب، ولكنه متوسط تمامًا من حيث وزن المعمور الفعال، فالصعيد أضعاف الدلتا طولًا، ولكن الدلتا ضعف مساحته وكلاهما يتقاربان من حيث حجم عدد السكان؛ حيث كانت الدلتا في إحصاءات عام 1960 10.9 مليون، مقابل 9.2 الصعيد، وإلى جانب هذا فإن نمط توزيع السكان والكثافة في مصر تجعل من القاهرة قمة طبيعية وتتويجًا لزحف سكاني صاعد؛ حيث إن بروفيل الكثافة في الوادي برمته يشبه الهرم المدرج قمته في القاهرة، حيث إن القاهرة وحدها تضم نحو ربع مجموع سكان مصر في ثمن مساحته، ولهذا كان طبيعيًا أن توصف القاهرة بأنها (زر ماسي يمسك مروحة الدلتا ويد الصعيد؛ ولذلك يرى بعض العلماء أن القاهرة أكثر عواصم العالم منطقًا في موقعها. 4- المركزية التاريخية: تعتبر مدينة القاهرة أقدم عاصمة في العالم، حيث لم تكن طيبة في الجنوب عاصمة إلا لفترة قصيرة، وبالمثل تانيس في شرق الدلتا وأيضًا الإسكندرية، ولكن منطقة القاهرة هي الفسطاط، وهي هليوبوليس، أو أون، فمن خلال حساب التاريخ والزمن القاهرة أقدم عاصمة ليس على مستوى مصر فحسب، بل على مستوى العالم. 5- المركزية الوظيفية: البيروقراطية البيئة الفيضية، وزراعة الري تتطلب تنظيمًا مركزيًا يخضع فيه الجميع طواعية لسلطة عامة مطلقة، وهذا عامل مهم له إيجابياته وسلبياته؛ لأن التنظيم المركزي القوي ساعد على وجود الوحدة السياسية المبكرة في مصر، كما أنه علم الشعب النظام أساس الحضارة، ولكنه أدى أيضًا لتزايد المركزية ودور الحكومة المتزايد، وأرسى نواة البيروقراطية المركزية؛ ولذلك أصبحت مصر تجمعًا حكوميًا؛ فالحكومة وحدها هي التي تملك زمام الأمور والمبادرة؛ ولهذا أهميته، ولكنه في الوقت نفسه قد يؤدي إلى خلق التواكل والتكاسل والسلبية، وخنق ملكات المبادأة والمنافسة. والذي يتعمق في تاريخ مصر الاجتماعي يجد البيروقراطية سمة أساسية طوال التاريخ تقريبًا، وذلك واضح حتى في النقوش والآثار القديمة، ومثال ذلك تمثال شيخ البلد، ومن هنا أهمية الجهاز الإداري في مصر إذا فسد ظهرت المجاعات والأزمات، ولذلك نجد أن سنوات الرخاء والإصلاح مرتبطة بإصلاح جذري في الجهاز الإداري لمصر، ودليلنا في هذا قصة نبينا يوسف في سنوات المجاعة، ولذلك فالجهاز الإداري هو حجر الزاوية أو كلمة السر في تقدم أو تخلف مصر منذ عصر سيدنا يوسف، وهذا يختلف تمامًا في حضارة المطر، أو زراعة المطر؛ لأن زراعة النهر تتطلب حاكمًا قويًا – شرطة قوية لضمان وصول المياه لكل مزارع، ثم جيش ضخم من المهندسين والمشرفين على القنوات والترع والسدود، وجهاز مالي للتمويل والمحاسبة، وجهاز إداري ينظم كل هذا، ولذلك يرجع تاريخ بعض الوزارات في مصر لآلاف السنين منذ بدأت الزراعة، مثل وزارة الأشغال والري، والزراعة، والداخلية، والمالية.. معظم هؤلاء غير مطلوبين بنفس هذه الأحجام في بلاد المطر مثلا. ولذلك منطقي أن تصبح الحكومة في مصر هي أكبر صاحب عمل ويصبح للعمل الميري قداسة "إن فاتك الميري.. تمرمغ في ترابه"، ثم كان الانتقال من الري الحوضي قبل السد إلى الري الدائم بعده خطوة ضاعفت من أهمية الحكومة والبيروقراطية في مصر، ولذلك نجد أن أجور الموظفين ابتلعت نحو 40.5% من ميزانية مصر عام 1952، مقابل 9% في إنجلترا بلد المطر "ملحوظة" الأجور الآن نحو 24%.