د. محمد نعمان جلال لقد أخذ "دنج سياو بنج" من الثقافة الصينية القديمة الحكم العديدة والأمثال ونسوق منها أمثلة ثلاثة مشهورة الأول "أن تعلم الإنسان كيف يصطاد السمك أفضل من أن تعطيه سمكة"، والمثل له رنين وسجع باللغة الإنجليزية والصينية، ولكنه ليس بنفس القدر باللغة العربية، وهذا يعني إتاحة الفرصة للتدريب المهني؛ لرفع مستوى العامل وإتقانه العمل في شتى القطاعات بدلًا من أن تعطيه سمكة يأكلها ثم يطلب المزيد أي كناية عن المعونات والمساعدات العينية أو النقدية فيأكل بها وينام.. المطلوب أن نعلم الإنسان والمواطن المهنة وندربه ونطوره ونراقبه فيتعلم الجد والعمل والإتقان، وليس الكسل والإهمال والتواكل، المثل الثاني "إنه لا يهم لون القطة أحمر أو أبيض طالما تصطاد الفئران"، وهذا استخدمه فيما يمكن أن نسميه التركيز على الهدف واستخدام الوسائل المناسبة التي تحققه بغض النظر عن طبيعتها؛ شريطة أن تكون أخلاقية، وهذا يذكرنا بالمثل المنسوب لعالم السياسة والفيلسوف الإستراتيجي الإيطالي "مكيافيلي" الذي فهمه بعض المصريين والعرب بأنه يعبر عن مقولة "الغاية تبرر الوسيلة"، بمعنى سلبي ولا أخلاقي، وهذا لم يكن الهدف من الحكمة المنسوبة لمكيافيلي، ولا هو الهدف والمعنى الصحيح للحكمة الصينية التي استلهمها دنج.. الهدف الحقيقي هو عدم الجمود الفكري والإداري والسياسي، والتركيز على الجانب العملي، أو ما يسمى بالبراجماتية في الفكر الأمريكي أي نستخدم أي وسيلة ما دامت تحقق الهدف، وبعبارة أخرى التفكير خارج الصندوق، ومن هنا حقق الزعيم الصيني المبدع التنمية.. والمثل الثالث "لا تعبر النهر حتى تصل إليه"، وما أحوجنا لهذا المثل؛ فنحن لدينا مسئولون يقولون كثيرًا وينجزون قليلًا، ويتصورون أن وعودهم تحققت فعلًا، وهم لم يتقدموا خطوة في المشروع، وقد اعتاد أحد الوزراء في عهد مضى على أن يدلي بتصريح يومي عن إنجازاته في مجال البترول والغاز، وقمت بجمع بعض من تلك الإحصاءات فوجدت أن إنتاج مصر تفوق على الإنتاج الروسي والأمريكي.. وكتبت مقالًا عن ذلك في حينه قلت "إنني لا أجد في إحصاءات الأممالمتحدة ما يشير إلى أن مصر أصبحت أكبر دولة منتجة للبترول والغاز، بينما وجدت ذلك في البيانات التي يدلي بها سعادة الوزير واستطردت بأنه ربما كانت الأممالمتحدة عاجزة عن المتابعة الدقيقة للإنتاج المصري، كما أعلنه سعادة الوزير، وكان هناك أكثر من وزير من نمط وزير البترول آنذاك، فكان وزير التخطيط يدلي ببيانات لا مثيل لها، كما لو كانت مصر سبقت الصين في التقدم والإنتاج!! السؤال: لماذا يفعل الوزراء ذلك؟ والجواب؛ لأنه لم يكن هناك حساب ومتابعة من الأجهزة المعنية، بل أذكر أن أحد رؤساء الوزارات اتبع ذلك النهج في إنجازاته، وكان يبلغ الرئيس مبارك حتى إنه قال إنه في زيارة لبعض الدول الآسيوية، وادعى أنه زار الصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وبعد سنين قلائل اكتشف الرئيس مبارك ذلك فأطاح به بين عشية وضحاها. إن العلم والدقة والخبرة والرقابة والمتابعة والتخطيط السليم هو الذي حول الصين الحديثة من دولة شيوعية ظل قائدها في السلطة حتى الوفاة مثل "ماوتسي تونج وشوان لاي"، وهكذا في مختلف المواقع، ومثل تجربة الاتحاد السوفيتي؛ حيث حكمته قيادة حزبية ثلاثية لم تترك السلطة برغم أنها بلغت من السن عتيًا؛ ومن ثم حدث جمود في الفكر والعمل مما أدى إلى الانهيار. فالإنسان لا يستطيع أن يعطي بإيجابية ونشاط أكثر من عشر سنوات في المنصب، ثم يحدث تراجع في أدائه أو غرور مدمر، وهذا سر نكبة عالمنا العربي والإسلامي فلا يترك أحد السلطة إلا بالوفاة أو بالإطاحة به حتى منذ بداية التاريخ الإسلامي والعربي والثورات في العصر الحديث، لم نستطع تطوير تجربة الانتقال السلمي للسلطة، أو ترك المنصب للآخرين، وهذا لم يكن عيبًا في بداية الحضارة الإسلامية؛ لأنه لم تكن هناك نماذج يمكن الاستفادة منها، ولكنه أصبح عيبًا خطيرًا في العصر الحديث لأن النماذج متعددة في الشرق والغرب، ولكننا نأخذ من كل تلك التجارب أسوأها، فالرئيس مبارك ظل في السلطة ثلاثين عامًا حتى أطاحت به ثورة 25 يناير2011، والرئيس عبدالناصر بالوفاة، والسادات بالاغتيال، والرئيس حافظ الأسد بالوفاة بعد نحو ثلاثين عامًا ثم تركها لابنه، الذي كاد يقضي على كل شعبه، ثم أخضع بلاده للاحتلال - غير المباشر - من إيران، ودول أخرى لمجرد الرغبة في البقاء في السلطة.. أما تجارب اليمن والعراق وليبيا؛ فتكاد تتشابه من شقيقاتها الجمهوريات التي أطلق عليها الدول الملكية، فلم يتطور فكر الإنسان العربي؛ ليقدم نموذجًا خاصًا به كما فعل "دنج سياو بنج" في نموذجه لاستعادة هونج كونج 1977 ومكاو 1999، وقد حاول "الإخوان" في مصر إقامة توريث في العشيرة الإخوانية؛ لولا فضل الله والدور العظيم الذي قام به الفريق عبدالفتاح السيسي، فالإخوان هم نتاج تراث متأسلم، وليس إسلاميًا، فهو نقيض نموذج الخلفاء الراشدين الأربعة، إنه متخلف ومرتبط ببعض الأجهزة الأمنية الأوروبية، فهم جمعوا أسوأ ما يكون في أي نظام؛ فأصبح لديهم نظام لا يمت للإسلام بأدنى صلة، ونموذج ذلك تغيير الدستور التركي لإرضاء السلطان العثماني الجديد وقصره المنيف، وتدميره للسلطة القضائية ومعاقبته للإعلام والشرطة؛ عندما وجهوا تهمًا لبعض أتباعه وابنه بالفساد، وكذلك تقليمه لأظافر الجيش التركي، وتشويه سمعته بما أسماه محاولة انقلاب فاشلة، وهي محاولة مشكوك في مصداقية الادعاء بها، وإنما كانت لأهداف ضرب خصومه وإبعادهم، ومن سماته الانقلاب على زملائه في قيادة الحزب، الذين ساعدوه في الوصول للسلطة؛ مثل عبد الله جول وداوود أوغلو، ومنهم فتح الله جولن الذي اضطر لترك البلاد ثم تابعه للقضاء عليه قضاءً مبرمًا ونهائيًا. كاتب المقال: مساعد وزير الخارجية سابقًا