د. محمد نعمان جلال لقد مرت الصين بتجارب جديرة بالاهتمام في علوم الإدارة والسياسة والاقتصاد والثقافة، وهو ما حقق لها الانطلاق بسرعة هائلة في شتى الميادين. عندما وصلت الثورة الصينية بقيادة "ماوتسي تونج"؛ للسلطة في أكتوبر (1949) كانت الصين في قمة التخلف التكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الإداري، وكانت مصر أكثر تقدمًا آنذاك من الصين وكوريا الجنوبية وغيرها، وعندما بدأت تجربة محمد علي في مصر، ثم جاءت ثورة الإصلاح في اليابان المعروفة باسم ثورة "الميجي" عام (1868)، جاءت بعثة يابانية لمصر لدراسة تجربتها والاستفادة منها. وبعض الدول العربية تقدمت بسرعة فائقة ليس فقط لثرواتها، ولكن لحسن الإدارة والتخطيط والاستعانة بالخبراء ومنهم مصريون، ولقد آلمني أن كثيرًا من الإخوة من الدول العربية يسألونني ماذا حدث لمصر من تعاقب الكوارث عليها، وكانت مضرب المثل في النصف الأول من القرن العشرين؟ وهذا ما دفعني لدراسة تجربة التقدم في الصين، وضرورة النظر للاستفادة بها لتحديث مصر. لقد قامت التجربة الصينية على المفهوم الثوري والعقيدة الأيديولوجية، وفكر الزعيم وأدى بها للتقدم، ولكن بخطوات معدودة وأحيانًا التقدم خطوتين والتراجع خطوة وأحيانًا خطوتين بل خطوات، كما حدث في ظل الثورة الثقافية التي استمرت عشر سنوات من (1966) إلي (1976)، وتحولت الصين في ظلها إلى مزيد من التخلف والانهيار الاقتصادي والإداري والسياسي. ولكن الصين كدولة ذات حضارة عريقة وكثرة سكانية وموارد كثيرة شعرت بالتحدي، وقدر لتلك الثورة بروز زعيم من ركام الثورة الثقافية هو "دنج سياو بنج"، الذي كان في الخمسينيات من أمناء الحزب الشيوعي، وقد عانى من الاضطهاد خلال الثورة الثقافية، برغم أنه كان من قيادات الحزب الشيوعي، ومع ذلك تميز في عودته للحياة السياسية مجددًا في أواخر فترة تلك الثورة بأربع سمات، أولها إنه لم يحتفظ في ذاكرته وسلوكه بالمعاناة والإذلال الذي تعرض له في تلك الفترة الثورية التي أطاحت برؤوس وقيادات حزبية كثيرة كان لها تاريخ عريق ومساهمات وإنجازات مشهودة، ومن ثم لم تسيطر على "دنج سياو بنج" نوازع الحقد والانتقام من الآخرين، والسمة الثانية أنه درس تجارب عديدة، واستمع لمفكرين عديدين بارتياح مهما كان نقدهم له. ولم يحصر نفسه في الفكر الأيديولوجي الشيوعي والشعارات القديمة التي عاشت فيها الصين في عصر "ماوتسي تونج"، بل تحول لإنسان وقائد متفتح على العصر، يأخذ من تجارب الآخرين بلا عقد، ودرس حضارة الشعب الصيني في تاريخه الطويل؛ ليستفيد من عبرها وحكمتها وثقافتها، ومن هنا أخذ الكثير من الأمثال والحكم الصينية البسيطة، ولكنها ذات دلالة؛ لخدمة الهدف الأسمى وهو تحقيق نهضة غير مسبوقة في أبعادها وسرعتها في الإنجاز وتجربتها، كما استدعى للحاضر فكر الصين القديمة مثل فكر "كونفوشيوس" في الوئام والتناغم، وفكر عالم الإستراتيجية الأشهر "صون تزو"، الذي اعتمد عليه حكام الصين القدماء في توحيدها، وهو لا يزال مرجعية إستراتيجية تدرس في الأكاديميات العسكرية العالمية، بل أنشأت الصين معاهد نشرتها في العديد من دول العالم باسم حكيم الصين الأبرز كونفوشيوس، ونشرتها في العديد من دول العالم. والسمة الثالثة الحزم والعزم والثواب والعقاب الفوري وبلا تردد، ودفع القضاء الصيني للتصرف على نمطه وإصدار أحكام بلا خوف ولا تردد ولا تباطؤ، والسمة الرابعة هي عدم الأنانية وعدم الرغبة في البقاء في السلطة، بل نقل السلطة للقيادات الناشئة في المجتمع الصيني، وهكذا وضع سابقة في التاريخ الصيني الحديث وقواعد التزم بها من جاءوا بعده، وسجل له مكانًا متميزًا في تاريخ الصين، بل وفي سجلات التاريخ العالمي كشخصية فذة لا تقل عن "جورج واشنطن وبنجامين فرانكلين أو ونستون تشرشل أو شارل ديجول" وغيرهم من القادة العظام في العالم المعاصر، وليس مثل القادة الآخرين في بعض الدول الذين أقاموا صروحًا رائعة من التطور الاقتصادي والتكنولوجي، ولكنهم دمروها في حياتهم برعونتهم وضعف رؤيتهم للعالم المحيط بهم مثل "أدولف هتلر وصدام حسين"، بل حتى عملاق مثل محمد علي الذي ملأه الغرور وتوسع بما لا تسمح به السياسة الدولية في عصره، فتكاتفت ضده الدول الأوروبية بدعوى حماية الخليفة العثماني، والهدف الأساسي منع ظهور دولة قوية وفتية في مصر تهدد مصالحهم وتوسعهم الذي يخططون له، وأصدر الخليفة العثماني فرمان عام (1840)؛ ليحدد عدد قوات الجيش المصري، ويوقف الصناعات الحربية التي أنشأها محمد علي. وفي إطار تجربة دنج سياو بنج انفتحت الصين على الرأسمالية فأخذت منها أحسن سماتها وهي الإنتاج والتصدير والجدية في العمل والثواب والعقاب، فأنشأت مناطق خاصة متقدمة للتصدير، وتمت إقامتها بعد أن صدرت قوانين للاستثمار الأجنبي تعطي كل طرف حقه؛ بمعنى أن يستفيد الشعب الصيني ويستفيد المستثمر الأجنبي، وتم إنشاء البنية الأساسية الجاذبة للاستثمار والبنية القانونية والإدارية، ومن أجل ذلك درس تجربة دولة صغيرة تقدمت، وأصبحت مضرب المثل؛ وهي سنغافورة بقيادة "لي كوان يو" الزعيم الأسطوري، الذي يتشارك مع " دنج سياو بنج" في بعض السمات السابق الإشارة إليها، ثم انفتح على التجارة مع أمريكا وأوروبا واليابان العدو اللدود للصين في تاريخها الحديث دون حساسية، وعلى تجربة الاتحاد السوفيتي وتكنولوجيته؛ لتطوير المصانع القديمة التي سبق أن حصلت عليها الصين من الاتحاد السوفيتي في عهد ماوتسي تونج، ولكنه رفض الأخذ بفكر جورباتشوف في الانفتاح بلا نظام أو ضبط الأمور؛ مما أدى لتأخر روسيا والتبعية للغرب، والذي نتج عنه تفكيك الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، وحدوث اضطرابات وفوضى لعدة سنوات في أوروبا الشرقية؛ التي ارتمت في حضن الاتحاد الأوروبي، وقد استعادت روسيا دورها ومكانتها بفضل سياسة فلاديمير بوتين. كاتب المقال: مساعد وزير الخارجية سابقًا