تتعامل الأمم المتحضرة مع الوقت بوصفه ثروة، أو موردًا له طبيعته الاقتصادية دون التخلي عن طبيعته الإنسانية والثقافية. ونتعامل مع الوقت بوصفه مسكوكة من المحفوظات التي يقف العقل الجمعي عند مجرد ترديدها دون تفعيلها عملًا بقانون " وجود النص يغني عن تطبيقه". لذا ليس مستغربًا أن تجد الكثيرين يرددون مقولات من مثل: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، الوقت كالذهب إن لم تدركه ذهب، الوقت كالمال كلاهما قيمته في جودته وحسن إنفاقه واستخدامه، الوقت هو أكثر ما نحتاج وأسوأ ما نستخدم، السر ليس في قضاء الوقت لكن في استثماره، الذي يسيء استخدام الوقت هو أول من يشتكي من قصره. منذ فجر التاريخ تسعى البشرية بكامل طاقتها وقدرتها على التفكير فيما من شأنه الإنجاز في أقل وقت ممكن، أي السرعة في إنجاز أعمال تأخيرها يعني تأخير غيرها ومن ثم تتوقف عجلة الإنجاز البشري، لذا سعت الإنسانية جاهدة إلى تطوير منظومتها / منظوماتها لعصر أهم سماته السرعة، ولم يكن مصطلح "عصر السرعة" مجرد مقولة أطلقها الإنسان على لحظة تاريخية لها طبيعتها الخاصة وإنما هي سمة ليست وقفًا على جانب واحد من جوانب الحياة وإنما هي منظومة كبرى تتشارك مؤسسات وأنظمة حكم ومجتمعات في إنتاجها وإنجاز مقوماتها، فلم يعد مقبولًا أن تقف في طابور ساعة أو أقل حتى للحصول على خدمة في مؤسسة، ولم يعد مقبولًا في عصر الصواريخ عابرة القارات وفيما تطرحه ثورة التكنولوجيا من معطيات أن تظل الحكومات والمؤسسات تعتمد طرائقها التقليدية في تقديم خدماتها. ففي الوقت الذي تتسابق فيه شركات المحمول وشركات الكمبيوتر والبرمجيات لتطوير نظم التشغيل معتمدة خطوتين أساسيتين: تجاوز أخطاء الأنظمة السابقة أولًا وتطوير المنتج بالإضافة ثانيًا. وعلى الرغم من توافر مئات البرامج والتطبيقات القادرة على خدمة الإنسان وتوفير وقته وجهده بما ينعكس على توفير طاقة المجتمع بكامله وتجنب إهدار ممتلكاته وثرواته (كم طن بنزين تحرق في إشارات المرور غير المنضبطة وزحام الشوارع وفوضاها مسببة تلوثًا للهواء واستنزافًا للوقت ، إن 100 شخص ينتظرون ساعة في مكان ما لا يعني ضياع ساعة واحدة وإنما ضياع 100 ساعة وهو عدد الساعات نفسه مضروبًا في ألف أو في مليون شخص تضيع منهم ساعة في انتظار دورهم في بنك أو في أية مؤسسة حكومية أو في إشارة مرور أو في انتظار قطار لا يحترم مواعيده أو غيرها من ممارسات وراءها نظام مضيع أو وعي مهدر أو إحساس بالمسؤولية منعدم وجميعها ممارسات تكاد تمثل سياجا من قوانين الفوضى السائدة أو المتسيدة حد التوحش. تعمل عقلية العالم وفق أحدث نظم تشغيل التكنولوجيا في الوقت الذي تصر فيه كثير من مؤسساتنا على اعتماد عقلية العمل بنظام ويندوز 1998 الذي لم يعد موجودًا على أي جهاز كمبيوتر في العالم. ولننظر إلى نموذجين: شركات تقديم خدمة الانترنت التي ما زالت تقليدية تمامًا في تقديم خدماتها وفشلت فشلًا ذريعًا في تطوير منظوماتها التكنولوجية (لي ولكثير من الأصدقاء كثير من القصص مع شركة بعينها على الرغم من إنها صاحبة أكبر عدد من العملاء في مصر ولكنها الشركة الأكثر فشلًا في تقديم خدمة الإنترنت)، حتى يبدو أنها تقدم الإنترنت بطريقة تناسب القرون الوسطى. النموذج الثاني الخدمة البنكية، وسأكتفي بمشهد تابعته عن قرب: "في أحد فروع البنك الأهلي كانت العميلة تشتكي للموظف أنها في أي بنك خارج مصر لا تحتاج في تعاملاتها البنكية إلى ما تحتاجه هنا من وقت مستهلك وضائع وراحت تعدد له الكثير من الجوانب الإيجابية في أي بنك ولكنه أفحمها بقوله شبه ساخر: وماذا يوجد هناك ليس موجودًا هنا؟ كادت السيدة تصعق ولكنها تماسكت لتقول له بكل أدب: أدعو أن يرزقك الله بفرصة عمل في الخارج لترى بنفسك". توجه لفرع أي بنك في مصر ستجد صالة البنك مزدحمة بالعشرات وفي بعض الفروع بالمئات ثلث هؤلاء ينتظر الواحد منهم ساعتين لتسلم بطاقة الصراف الآلي المعروفة اختصارًا (ATM) بطاقة يحصل عليها العميل في خمس دقائق فور فتحه للحساب وقبل أن يغادر مقعده أمام الموظف (يحدث هذا في أي بنك في أي مدينة في العالم ولنأخذ الخليج مثالًا، مجرد مثا ) وهو ما يعني أن ما تنجزه في أي بنك خارج مصر في خمس دقائق يحتاج في مصر إلى خمسة عشر يومًا وثلاث ساعات انتظار في البنك حيث النظام يقوم على أنك تفتح الحساب ويكون عليك أن تنتظر أسبوعين للحصول على البطاقة ويكون أمامك خياران لتصل إليك إما عن طريق البريد ويظل مندوب البريد يلاحقك بالاتصال تليفونيًا حتى تلقاه (هناك مندوبون لهذه الشركات يكتفون في البداية – توفيرًا للاتصال – أن يرن عليك معتقدًا أو مراهنا أن العميل الذي ترن عليه قد يتصل بك فورًا) وإما أن تذهب إلى البنك ويكون عليك الانتظار أكثر من ساعتين لتحصل على معلومة صدور البطاقة من عدمه، وطبعًا نظرية الاحتمالات قائمة طوال الوقت (احتمال عدم الصدور ومن ثم الحضور في وقت لاحق ومن ثم التمرين على عادة الانتظار وممارسة الصبر على إضاعة ساعتين انتظار). لم نتعلم من الإسلام، وهو يحث على استثمار الوقت ويطرحها صراحة: إن الإنسان يحاسب عن عمره فيما أفناه. ولم نتعلم من نجيب محفوظ بوصفه أحد أهم مستثمري الوقت والسيطرة عليه في القرن العشرين؛ فسيرة حياة الرجل مع الوقت نموذج يستحق الوقوف عليه وتأمله. ورغم درايتنا الكاملة بقيمة الوقت وأهميته وما يسببه فقدانه نعجز حتى في مؤسساتنا التعليمية عن تقديم مبدأ فعلي لاحترام الوقت (اسأل كم أستاذا في جامعاتنا يحترم وقت الطالب واسأل كم طبيبًا يحترم وقت المريض، واسأل كم مؤسسة تحترم وقت عملائها، واسأل كم مواطنًا يدرك كيفية إدارة الوقت، أقل لك متى يمكننا أن نكون أكثر تحضرا).