تُعوّل الجماهير العريضة على المثقف الإيجابي المستنير، الذي ينتشلها من مآسيها التي تفرضها الظروف التاريخية، وذلك المثقف إما أن يكون مثقفًا تنويريًا بناءً، يمارس دوره في السياق التقليدي (التنظير)، أو في السياق العضوي بمصطلح أنطونيو غرامشي، أي التفاعل الإيجابي على أرض الواقع من خلال ممارسة عمل سياسي ما، أو أن يكون مثقفًا هدّامًا يمارس أدورًا يعتقد أنها تنويرية، يعتمد منهجها على تفتيت الجهود وتشويه الإنجازات لمجرد أنها لا تتوافق مع رأيه أو مشروعه. مع التحولات التاريخية، يتفاقم دور المثقف المصري والعربي بوجه عام، حيث إن ثمة عقبات تقف أمام مشروع المثقف التنويري، وتتمثل تلك العقبات في القيود التي تفرضها السلطة، بخاصة بعد الثورتين (25 يناير – 30 يونيه). تعريفات المثقف أو الثقافة، لا حصر لها، إلا أن الأبرز والأقرب للواقع العربي، تعريف عالم الاجتماع البريطاني توماس بوتومور (1920 – 1992)، في كتابه "الصفوة والمجتمع"، وهو"المثقفون عبارة عن مجموعة صغيرة تتألف من أولئك الذين يسهمون مباشرة في نقل، ونقد، وابتكار الأفكار، وهم جملة الفنانين، والفلاسفة والعلماء، والمؤلفين والمفكرين، والمتخصصين في النظريات الاجتماعية، والمعلقين السياسيين". "الدور التنويري والتخلي عن الأفكار الهدّامة" الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، يرى أن دور المثقف في اللحظة التاريخية التي تعيشها مصر الآن، يجب أن يكون ذا طابع تنويري، في مواجهة الأمية والجماعات المتطرفة، وكذلك في خلق رأي عام يؤيد فكرة الوطنية مرة أخرى، ويعيد شعارات ثورة 1919 من جديد (الدين لله والوطن للجميع). صحيح أن ثمة قيودا وإغراءات يتعرض لها المثقف من قِبَل السلطة، وهي إغراءات تقليدية، وعلى المثقف حتى لو وقع في شرك واحد منها، ألا يتخلى عن دوره في التنوير. ويتصوّر "عصفور"، أن المثقف لم يكن يعيش أبدًا في برج عاجي، كما يشيع البعض، لكنه واحد من الجماهير المطحونة، يقع غالبًا بين سندان السلطة ومطرقة الإرهاب الديني، إذ إن المثقفين المصريين هم فئة وطنية قاموا بأعظم الأدوار الوطنية، من خلال ثورة 30 يونيه التي قادوا فيها الجماهير العريضة في الشوارع، وأسس الشباب منهم حركة تمرد ضد جماعة الإخوان الإرهابية. ويُجزم "عصفور" بأن بعض المثقفين الآن، محبطون بسبب ما وصفه ب"انعدام الحرية"، في محاربة التطرف الديني. "تغيّر خارطة المثقفين" يعرّف الدكتور صلاح فضل، المثقف بأنه شخص ينتمي إلى مؤسسة أو فئة، لا تكتفي بمباشرة مهنتها الخاصة، وإنما يوظف طاقته ويشغل وقته بالشأن العام، من حيث مراقبته، وإبداء الرأي فيه، والإسهام في توجيهه نحو بناء مستقبل أفضل، إذ يجاوز حدود معيشته وعلاقاته الشخصية، للمشاركة في تدبير أمور مجتمعه، وعلاقاته الدولية، وتوجهاته السياسية، والاقتصادية والثقافية، فهو يملك حسًا وطنيًا وإنسانيًا، يجعله مهموما بالآخرين، وبالمجتمع وبحركته ومستقبله ومساره. ولكي يعبر ويمارس هذا الوعي الثقافي، لابد له من وسيلة تواصل، من خلال الإعلام المكتوب في الصحف والمجلات والمسموع في الإذاعة والمرئي في التليفزيون، ثم المتداول من خلال وسائل التواصل الاجتماعي من الفيسبوك وتويتر وغيرهما، وهي الأدوات التي تربطه بالجمهور. وخارطة المثقفين تغيّرت تمامًا، فقد كانت منذ جيل واحد تقتصر على المفكرين والمبدعين، وقادة الرأي في المجتمع، وأصحاب التوجهات الإيديولوجية الواضحة، مثل القوميين، والاشتراكيين والإسلاميين، وأنصار السلطة القائمة، وهذه الخارطة، حدثت فيها تحولات فكرية، في العقود الأخيرة، إذ انضم لها نجوم الإعلام، ودعاة الدين، ومحترفو السياسة، ورؤساء الجامعات، ومفتو الإرهاب، وأصبحوا ينافسون المفكرين والمبدعين حتى تفوقوا عليهم أحيانًا في التأثير، لأنهم يمتلكون من أدوات التواصل، ما لا يملكه المثقفون الحقيقيون. ولأن المثقف بطبيعته لابد أن يتخذ موقفًا نقديا من السلطة، وإلا سقط فورًا وخسر مصداقيته، فقد عمدت السلطة بطريقة منتظمة إلى تقييد المثقفين، ذوي الرأي المستقل الحر، وإضعاف أصواتهم، وتنحيتهم عن مواقع التأثير، مفضلة عليهم مواكب الإعلاميين "المنافقين". وشعر كثير من هؤلاء بالعزلة المفروضة عليهم فاحترموا أنفسهم، وآثروا الصمت، وخسر المجتمع بتهميشهم الصوت الحقيقي، وبقي على السطح كثير من الانتهازيين وأصحاب المصالح، ومثقفو السلطة، الذين يلتمسون منافع وراء آرائهم ومواقفهم، إذ أفرزت ثورة يناير عددًا ضخمًا من أقطاب الوعي المصري، الذين نادوا بتصحيح المسار. وبدأت حركة المجتمع تتجه نحو التغيير الحقيقي، لكن موجات الانتهازية واستغلال الدين، سرعان ما أدت إلى قيام دولة "الإخوان" خلال "العام الأسود"، الذي انتكس فيه التاريخ المصري، لسنوات عديدة، إلى الوراء، حتى جاءت ثورة 30 يونيو لتصحيح المسار لكن الثمن الفادح، الذي يدفعه المصريون، نتيجة الانتصار هذه الثورة، هو المفاضلة بين الحرية والأمن، الأمر الذي يقتضي تصحيح المسار مرة أخرى. "الحرية أولًا" يرهن الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي دور المثقف بالحرية، إذ يقول "يجب أن يعبر عن رأيه في كافة القضايا المختلفة، خصوصًا فيما يتصل بالمسائل والقضايا المطروحة في هذه الأيام، مثل قضية التطرف والإرهاب والديمقراطية وموقفنا من تاريخنا، والمستقبل والمشروع الوطني، إلا أن ذلك لا يتحقق إلا في وجود الحرية". وإذا كان البعض يتحسس من نقد المثقف الذي يصفونه بالهدام، فإن هذا النقد يُصحح ويُرد، بالحجج والبراهين.