المثقف دائما عليه العين السلطة تحاول ان تستميله تلوح له بكل الإغراءات والمكاسب التي يمكن ان يجنيها اذا ماوقف الي جوارها مساندا يمكنه حينها أن يلتهم جزءا من الكعكة. هذا( الكارت) الثمين: المركز.. الكرسي لعبة قديمة مارستها الدول والحكومات ولاتزال! والعامة في المقابل يستنجدون بالمثقف يحملونه عبئا: ان يمد لهم الايدي ينتشلهم من هذا الظلم الذي يعانونه. انه الامل.. طوق النجاه في عيونهم والمثقف يحس تلك المسئولية الملقاة فوق اكتافه.. يشعر بأهمية دوره في نشر التنوير في قيادة الوطن في الشأن العام يعرف قيمة دوره جيدا وان كانت اغراءات السلطة( تزغلل)عينيه في كثير من الاحيان. لكن القضية ليست بهذه البساطة فالعلاقة بين المثقف والسلطة والعامة علاقة مركبة تأخذ منحنيات وابعادا مختلفة. علي سبيل المثال حينما يوجد مشروع قومي كبير للتحديث تتبناه الدولة, تدرك الدولة جيدا ان وسائلها السياسية والاقتصادية ليست كافية, لكنها بحاجة الي جهد المثقف الذي ينشر الفكر العقلاني والتنويري الذي يدعم مشروع الدولة. في هذه الحالة يكون اقتراب المثقف من الدولة او( السلطة) ليس ضد الجماهير او العامة بل لصالحها. وفي حالات تفشي الجهل والخرافة وسط العامة( غالبا ماتحاول نظم الحكم الاستبدادية تكريس هذه الحالات) يكون دور المثقف والمفكر التنويري صعبا ومعقدا, لانه في هذه الحالة يحارب في جبهتين: استبداد الدولة من ناحية و تخلف وعي الجماهير من ناحية اخري.. وهو معرض هنا للاصطدام بالسلطة والجماهير علي حد سواء! هذه العلاقة ليست بنت اليوم اذ كانت لها تجليات متنوعة ومختلفة بحسب العصر التاريخي الذي تحدث فيه كاتبنا الدكتور خالد زيادة مؤلف كتاب( الكاتب والسلطان الدار المصرية اللبنانية) بوصفه مؤرخا الي جوار انه يشغل منصب سفير لبنان في جمهورية مصر العربية ينقل لنا صورا متنوعة لهذه العلاقة علي مر عصور التاريخ. وعلي مدي ستة فصول: اليسق العثماني: حرفة الفقهاء, مجالس المشورة, كاتب السلطان, شريك الرأي, واخيرا المثقف, يقدم كاتبنا صورة تاريخية شاملة لتلك العلاقة الشائكة التي تجمع بين المثقف والسلطة. في البدء كان الفقيه هو مثقف السلطان.. يصدر له الفتاوي التي تناسبه وتتوافق مع رأيه.. يقف الي جوار مصلحته.. يؤيد مركز ه وكانت العلاقة حين ذاك واضحة و مباشرة في الدولة السلطانية ومن ثم كانت الاجهزة(الفقهية) المختلفة تلعب دورا مؤثرا في شتي المجالات من الامامة والخطابة والتدريس وصولا الي تولي القضاء, وكانت تملك كما يؤكد دكتور زيادة حيزا من الاستقلال الذاتي في تسيير شئونها الا ان هذه العلاقة كانت عرضة للتبدل مع الانعطافات والانقلابات وتغير الدول علي مدار الحقب التاريخية المختلفة. ومع قدوم العصر الحديث, يتعقد الموقف فيحل المثقف مكان الفقيه, ليمارس نفس دوره و يقوم بذات مهامه, ولكن في نفس الوقت تلقي علي عاتقه مهام اخري جديدة تتعلق بعلاقته بالجماهير وتعبيره عن طموحاتها و سعيها للحرية ولمساواة. وتلك هي الملامح العصرية الجديدة للمثقف.. مهموم دكتور خالد زيادة في دراسته هذه بالبحث عن بروز دور المثقف في البيئة العربية الذي يرتبط عنده بتجربة التحديث في عصر النهضة.. هذه التجربة التي لايمكن فهمها واستيعابها الا اذا عرجنا نحو المنعطف التاريخي القديم. ومرة اخري يبرز في هذا السياق دور الفقهاء وكتاب الدواوين.. تتحدد اذن معالم شخصية المثقف العربي الحديث وفي الافق هذه الخلفية التاريخية التي ترسم ملامحها وتحدد صراعاتها وعلاقاتها بالشد والجذب مع السلطة. وفي محاولتنا لفهم و ضع المثقف في لحظتنا الراهنة, يرجع بنا الدكتور زيادة الي التاريح لا ليقول لنا ان ما نشاهده اليوم, هو تكرار لما حدث من قبل و لكن ليبين لنا أننا لن نستطيع ان نمسك بما هو جديد في لحظتنا الراهنة دون ان نلقي اضواء من التاريخ. يقول: ندخل اليوم في العالم العربي مرحلة جديدة من التحولات التي ستستغرق سنوات عديدة, نشهد فيها مجابهة بين المثقف الذي يحمل افكار التحديث ويدافع عن الدولة وبين من يعتبر انه يملك الفهم الصحيح لتعاليم الدين, مجابهة لم نشهدها علي هذا النحو الصريح من قبل, ومع ذلك فإن قراءة التجربة التاريخية تتيح لنا ان نفهم علي نحو افضل الجذور التاريخية لما نشهده راهنا وما سنشهده في المستقبل القريب سطور الكتاب تجعلنا نبحر في رحلة تأمل رحبة, وبتعبير د. جابر عصفور الذي قدم للكتاب( يستحق القراءة المتأملة).. قراءة تفتح للوعي التاريخي افاقا واعدة بإمكاناتها الثرية..