تعد حقبة ما بعد ثورة يوليو 1952 حقبة تغيرت فيها الحياة في مصر بشكل جذري بتغير الظهير الأيديولوجي للدولة وما نتج عنه من تغير في التركيب الطبقي للدولة، ساهم في هذا التغير سياسة التأميم التي انتهجتها دولة الثورة في مجالات عدة. وتحتفل مصر اليوم بذكرى تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لقناة السويس، التي كانت خاضعة لفرنسا، لتصبح "شركة مساهمة مصرية" كما وصفه عبد الناصر في خطابه الشهير. غير أن التأميم لم يقف عند الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتد كذلك إلى غيره؛ فمن الأراضي والمنشآت والمصانع امتد التأميم إلى الثقافة. تمثل مذكرات وزير الثقافة الراحل ثروت عكاشة المنشورة بعنوان "مذكراتي في السياسة والثقافة" مرجعًا مهمًا، شاهدًا على وجهة الدولة في هذا المجال ورؤيتها لما تكون عليه هذه الثقافة الجديدة المرتبطة بالثورة. "والحديث عن الثقافة اليوم تجاوز ذلك السؤال التقليدي عن ماهية الثقافة إلى أمر آخر هو السياسة الثقافية أو الإطار العام للعمل الثقافي..." هكذا يقول عكاشة في حديثه عن رؤية الدولة، الذي كان الذراع الثقافية لها لفترة طويلة بلغت ما يقرب من اثني عشر عامًاعلى فترات متقطعة. عقب الثورة أنشئت وزارة "الإرشاد القومي" التي كانت تتولى ما نسميه الآن بمهام وزارة الإعلام، وكانت الثقافة وظيفة ملحقة بها، إلى أن أنشئت وزارة الثقافة عام 1958. وضع عكاشة نصب عينيه مهمة إخراج الثقافة من دائرة النخبة إلى دائرة عامة الشعب؛ لأنه ".. لا ازدهار لثقافة قومية إلا إذا عبرت عن فئات المجتمع المختلفة.." وحاول عكاشة أن يجرب هذا الأمر على أرض الواقع لتشهد الأوبرا في عام 1960 تقديم عرض باليه بالإضافة لموسيقى غربية أوبرالية حضرها عدد من العمال. وفي هذا السياق يشير الناقد الراحل فاروق عبد القادر في كتابه "ازدهار وسقوط المسرح المصري" إلى تغير الفئات التي صارت مهتمة بالثقافة، ممثلة في رواد المسرح، مشيرًا إلى أنه لأول مرة شوهد ضمن جمهور المسرح "أصحاب الجلاليب"، والعمال. وفي سياق نشر الثقافة بين أبناء هذه الطبقة، أطلقت وزارة الثقافة عام 1959 مشروع "قصور الثقافة" الذي عمل على تقديم الأعمال الفنية في المحافظات والقرى التي لم تكن تبلغها مثل هذه الأعمال. كان لنشر الثقافة بشكلها المقروء، سواء بالمكتب والمجلات، في صدارة أولويات "الثقافة" آنذاك، لتنشأ عدة مشروعات حاولت توفير الكتب ذات القيمة المعرفية والفنية الكبيرة، بسبل وأسعار متاحة. في عام 1957 أطلقت وزارة الثقافة مشروع ال"الألف كتاب"، غير أنه لم يكن متناولًا لفروع كثيرة، ليتم توسيعه بعد ذلك ليتناول عدة مجالات، بالإضافة لفتح الباب للترجمة في فروع متخلفة، لتصدر الدولة بعدها "المكتبة العربية" التي أصدرت كتبصا في عدد من الفروع وعلى رأسها التراث. توالى بعد ذلك صدور سلاسل الكتب التي بدأت ب"تراث الإنسانية"، "المكتبة الثقافية"، "أعلام العرب"، و"مسرحيات عالمية" التي ما زالت أعداد منها متداولة حتى الآن يلجأ إليها طلبة المسرح في الكليات المختلفة. أما فيما يخص المسرح فقد أنشأ عكاشة ما عرف ب"المؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى" التي لجأت أول ما لجأت إلى المسرح القومي الذي عملت على تطويره حسبما يروي عكاشة في مذكراته، بالإضافة لتزويده بعدد من النصوص الجديدة. وشهدت هذه الحقبة، كما يروي الناقد فاروق عبد القادر، نقلة في نوعية النصوص المقدمة على المسرح، بالإضافة لتغير نوعية الجمهور. فبرزت على الساحة أسماء جديدة مثل نعمان عاشور وسعد الدين وهبة، الذين حاولوا تقديم مسرح مصري يختلف عن المسرح الذي عرفه المصريون خلال حقبة الرواد الذي كان منقولًا من الغرب. كما أنشئت "الفرقة القومية للفنون الشعبية". في عام 1954 "تنبهت حكومة الثورة مبكرًا إلى أهمية السينما" كما يقول ثروت عكاشة، فأصدرت في 1954 تشريعًا يقرر دعم صناعة السينما، وذلك قبل أن تنشئ "مؤسسة دعم السينما"، التي تم تفعيلها عام 1959، وخصص لأول مرة بند في الميزانية يخص السينما، حيث اعتمد مبلغ 241300 جنيه لدعم السينما، حسب عكاشة. وكان انتباه الدولة لأهمية السينما راجعًا ل"الخطة القومية" التي وضعتها، لذلك ساهمت الدولة في تمويل عدد من الأفلام التي تدعم هذا الاتجاه القومي، مثل "الناصر صلاح الدين" الذي شاركت في تمويله، والذي يرى بعض النقاد والمؤرخين أنه قدم صلاح الدين الأيوبي في إطار عروبي يتماهى مع الموقف العروبي القومي للدولة. كما أنتج خلال الحقبة الناصرية عدد من الأفلام التي تروج لمؤسسات الدولة، وبخاصة العسكرية، ليقدم الفنان الراحل إسماعيل يس سلسلة من الأفلام تبدأ باسمه، منها: "إسماعيل يس في الجيش"، "إسماعيل يس في البوليس الحربي"، "إسماعيل يس في الأسطول"، وغيرها. هذه الأفلام التي رآها البعض ترغيبًا في الانضمام للجيش المصري بأركانه المختلفة. ولكن ما يصعب إنكاره هو جودة الأعمال الفنية التي قدمت خلال هذه الحقبة؛ حيث شهدت هذه الحقبة اهتمامًا كبيرًا بالأعمال الروائية التي قدمت على شاشة السينما، وكان للروائي الراحل نجيب محفوظ نصيب كبير منها، لتقدم السينما: "بين القصرين" 1962، "قصر الشوق" 1967، "السمان والخريف" في العام نفسه، وغيرها من الأعمال التي بقيت علامة في تاريخ السينما حتى الآن. غير أنه ومع هذه النهضة في الجانب الثقافي بقيت مسألة حرية الإبداع والعلاقة بين المثقفين والسلطة أمرًا مثيرًا للجدل. ففي حين يروي بعض المثقفين آنذاك مثل المفكر الراحل لويس عوض، الأديب الراحل نجيب محفوظ أن المثقفين لم يخضعوا لتأثير السلطة ثم عدة حوادث تشير إلى عكس ذلك. ويقول محفوظ في مقال له: "أما نحن فلم ينكل بنا بل على العكس، فقد أغدق علينا كل ما يمكن إغداقه إنسان من تكريم.. وفي جزء من عهده خيل إلي أنني أعيش في دولة عظمى". والمثير للتعجب في الأمل أن عوض كان قد ألقي القبض عليه بتهمة أنه "شيوعي"، وحاول ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك التدخل لدى الرئيس ووزير الداخلية ولكنه لم يفلح. وفيما يخص نجيب محفوظ فقد هددت روايته "ثرثرة فوق النيل" بالمصادرة لاتهامها بتشويه النظام، لولا تدخل الرئيس نفسه. وغيرها من الأمور تعرض لها المثقفون الذين تعرضوا للتضييق بسبب أعمال فنية، مثل "ألفريد فرج" الذي اعتقل لفترة غير قصيرة، ثم نشر مقالًا آنذاك في صحيفة قومية ناطقة بلسان الدولة يهاجم "حلاق بغداد" ويتهمها بإسقاط القصة التراثية على النظام السياسي الحاكم. ويعلق ثروت عكاشة على واقعة اعتقال عوض قائلًا: "وكان هذا درسًا جديدًا وعيته بعد خمسة شهور من قبولي منصب الوزير، وهو أن كبار المسئولين في الدولة كانوا لا يؤمنون بغير ما يسجله رجال مباحث أمن الدولة عن الأفراد". هذا "التأميم" للثقافة في مصر ما زال محل جدل حتى الآن، بين من يرى ضرورة ابتعاد الدولة عن الثقافة حتى لا تقع في فخ التأثير فيها وتوجيهها أيديولوجيًا، وبين من يرى أن للدولة دورًا ثقافيًا أساسيًا، وأن الثقافة يجب أن تكون جزءًا من "خطة الدولة". تبقى التجربة يحفظها التاريخ، وتبقى في النهاية الإجابة على السؤال معلقة: هل استفادت الثقافة من "التأميم" أم أضرتها السياسة؟