"وأنتِ أما زلت طائشة أم أن الغياب أهداكِ النضج؟" مقولة قالها صديقي الفنان لحبيبته. صديقي، هذا الشاب الوسيم الذي يحمل من الرجولة ما لا يحمله الشيوخ، ويحمل من الطفولة ما لا يفعله الأطفال. شاب يعرف جيدًا متى يكون أبًا ومتى يكون حبيبًا، متى يكون صديقًا ومتى يكون ابنًا مدللًا. لا أعلم ما إن كانت تلك الجملة من وحي إحساسه أم إنها من ألم قلب آخر، أو من قلم متوجع آخر، ولكنها لمست قلبي، بل خطفته. للأمانة لا أستطيع أن أؤكد إن كانت مقولته تلك هي من خطفت قلبي أم إن قائلها نفسه هو الخاطف. كدت أن أنطق: أوافقك يا صديقي، فالحب يجعل من العاقل طائشًا يجعله يفعل ما لم يكن يفعله ، يجري، يصرخ، يتجمل، يضحك، يلعب، يكذب. إنه الطيش يا سادة. أكاد أسمع توسلك وأنت تستغيث بها كي تخبرك أنها ما زالت طائشة. لا أكذبك القول إن أخبرتك أنني سمعت صراخ قلبك وهو يصيح: أما زلت تحبينني أم أن غيابي قد منحك نضجًا؟ لأول مرة أكره تلك الكلمة. لم أكن أعلم أن النضج هو انتهاء الحب أو التوقف عنه إلى أن سمعته يتوسلها أن تكمل طيشها ولا تجعل النضج طريقها. أنهى مقولته بينما كدت أن أشاطره التوسل كي ترجع عن قرارها، ولكن الواضح فعلًا أن الغياب قد أهداها النضج، أو على الأقل قد تصنعته أمامه، في حين يكاد قلبي أن يترك جسدي وحيدًا ويذهب إليه صارخًا: لو كنت أنا لما استطاع الغياب أن يهديني نضجًا لا أقبله. لو كنت أنا لك لكنت ما زلت طائشة، ولكن بم يجدي طيشي مع إنسان لا يهواه؟ بم ينتفع قلبي من قلب لا يراه؟ وقفت أتأملها علها تستمع لصوت آهاته وهي تصيح واحدة تلو الأخرى: انتظري فأنا ما زلت هنا ولكنها لم تأبه. لا ليس تعاطفًا معها، إنما تألمًا معه. اقتربت منه عله يرى أي شيء بي يجذبه إليه، ولكن عيناه كانت تلاحق ذلك الوهم الذي غادر. صحت أنتهره: لقد غادرت طيشك وعالمك وعادت لعالمها. فهمس: ولكنني عالمها. فصحت: إنها لم تنظر إلى الخلف، لم تتوجع لصراخك. همس: ولكنني السبب؛ فقد سمحت للغياب أن يدخل عالمنا. ضربت المنضدة وأنا أصيح: أيها الأصم لقد رفضتك. أغمض عينيه وهمس: إن كان الغياب قد أهداها النضج, فالذكريات لن تمنحها السلام. لم أستطع منع أناملي من ملامسه قطرات العرق الساقطة من جبينه وكأنه كان في ماراثون للسباق وأنا أهمس: هناك من هو مستعد أن يهديك الطيش ويمنحك الغرام. فسأل باهتمام وعيناه تغطى الحجرة بأكملها باحثة عن غايتها: وكيف علمتِ أنها ستعود؟