أكثر من ساعتين قضيتها في مشاهدة أعمال التشكيلية اللبنانية "آني كوركدجيان" (1972) لأرى كيف استطاعت أن ترسم لوحتها الأخيرة، خطوتها الكبيرة الأولى بعد معاناة هائلة في الحياة واكتشاف الذات الفنية، معاناة هائلة لا يمكن إنتاجها إبداعيًا إلا من خلال طاقة هائلة وموهبة ساطعة كما تصقل الشمس نورها يومًا بعد آخر. وكان مهمًا أن أشاهد لقاءً تليفزيونيًا معها، لأرى كم هي رقيقة ولطيفة، بعكس ما قد يستنتج المشاهد البسيط من لوحاتها. لوحاتها التي تطرح سؤالًا وجوديًا ومصيريًا مثل هذا: "كيف ننقذ أنفسنا من الموت؟" تجيب "آني" ببساطة "عن طريق الفن". لكن الموت قد يشوّه الفنّ، يجعله متسرّعًا، يكتم صوته ويتكلّم بدلًا عنه. هذا الاستدراك لم تذكره "آني" في تصريحاتها الكلامية وإنما رسمته من خلال أعمالها، بشكل عفوي مرةً، و مرّةً بعد أن درست في كلية الفنون الجميلة وفي كلية علم النفس وفي كلية اللاهوت. هذه الكليات لم تشفها من فصامية ذهنية، وإن كانت ستفيدها في التعايش معها، قبل أن تتخلّص منها، كمن يرمي أوجاعه إلى اللوحة: مجازر الأتراك ضدّ الأرمن، الحرب الأهلية اللبنانية، مقتل والدها في جريمة سرقة، الاستبداد، السادية، المازوشية، الخلق المشوّه، القسوة، العنف، الظلم.. وأهمّ من ذلك كلّه: مرح الفنّ. بعد لوحات الطفولة كم أجّل ضغط الموت هذا المرح، لم يتركها تعيد التفكير بالرسم إلا في الثانية والعشرين من عمرها، ولم يدعها تحسم أمرها في أن تكون رسامة إلا في الثلاثين، ومع أنها نجحت أن تقيم معرضها الأول عام 2005 إلا أنّ مرحها كان صاخبًا وأقرب إلى الكاريكاتور منه إلى اللوحة التشكيلية، تقصدت معنى "الصخب" بدل العنف، لأنه أدقّ دلالة هنا، فالعنف يُجمِّل كما قال أحد شعراء اليونان، وكنت تحدّثت عن العنف الجميل في أعمال فان كوخ في مقال سابق، ولكنّ عنف الموت قذر، وتفوح منه رائحة الاغتصاب والفضلات والجثث. لذلك ينبغي تثبيطه، التحايل عليه، تقليده بسخرية، مدّ اللسان له، تعريته بالمعنى الفضائحيّ ضدّ الجرائم. هذا الكاريكاتور سيفيد "آني" في إيقاع الكتل، مفردةً في ليّ عنقها، خصرها، ظهرها. أو مجتمعةً في انتهاكاتها غالبًا، القاسية منها، أو الماجنة في دبكتها عارية، أو في فراغ دورانها و خوائه. كان من المهمّ أن تسيطر "آني" على الموت وتجلياته، وتتحرّر من ضغطه النفسي المباشر، لتستطيع التعبير عنه كما تراه في ذهنها أيضًا بمحاكمات وجودية، وليس كردود أفعال انفعالية. هكذا توضح ثيمة الالتهام للذات أو للآخر ضخامةَ الكتل البشريّة، لتوضح حيوية تعابير وجهها، أو حياديّة نظراتها، إنها تأكل بعضها البعض بهدوء، وكياسة، كما يأكل "الحمار الوديع" حشائشه- مع الاعتذار للشاعر سليم بركات بسبب استعارتي وصفه للحمار في هذا المنحى الفظّ. لكن ما لم تسيطر "آني" عليه حتى الآن، أقصد في ابتعادها عن الكاريكاتور، هو الألوان والخطوط. ليس لغاية المحاكاة وإنما لغاية التجسيد، لتجعل للشيء ملمسًا بصريًا إذا ما أمكن ذلك. وتبدو العودة إلى حياتها المعيشة ذات أهمية تكوينية في هذا التجسيد ومعرفة مقاصده، لأذكر إنّ من تكفّل برعايتها بعد مقتل والدها كان عمتيها إلى جانب أمّها، وكانتا تعملان في بيع الملابس. وهذا يفسّر احتفاء بعض لوحاتها بالملابس، ربما لستر العري، عري الموت وأشكاله. وربما لكشف مقدرتها التجسيديّة على هذا النحو البهيّ من الإشراق النستالجيّ لصور السعادة وملامستها. غير أنّ هذا التجسيد بقي انزياحًا داخل لوحاتها، ويمكن لمحه فيما تريد التركيز عليه: في الوجوه والأعضاء الذكورية، والزهور حتى رسمتْ مؤخّرًا لوحة "العشاء"، وهذا الاسم من عندي، طالما أنّ "آني" لا تسمّي لوحاتها، واكتفيت بكلمة العشاء مع أنّني حين رؤية اللوحة بحثت في "جوجل" عن لوحات بعنوان :"العشاء الأخير"، وعثرت على عدّة لوحات لدا فيشني وأنجلو ولوحة للفنان الصيني المعاصر زينج فانزي، لا للمقارنة وإنما لأتأكّد من إمكانية عنواني. قد يكون ما هو لافت في لوحة "آني" حجمها وامتلاؤها للوهلة الأولى، بالإضافة إلى جميع المكونات السابقة التي تحدّثت عنها، ولاسيما لمسة المرح التي تبدو في هذه اللوحة أكثر إبداعًا وهدوء، مرح التجسيد للكتل البشرية، وحركاتها، وما تتضمنه من حركة رقص تكاد تكون خفية، وتداخل المسيح، أو الكابتن، أو مدير الشركة (والد اني كان صاحب شركة) بنوره مع المائدة، و المائدة ومحتوياتها. وإيقاع السطوح وظلالها، بين بروز سطح المسيح والمائدة، وخفوت الأجساد الأخرى المستعدة للالتهام.. كلّ ذلك يجعلها لوحة متعدّدة الأساليب ومتعدّدة الدلالات المنصهرة جميعًا في أسلوب "آني" الفريد، الذي يمنح نتاج ما بعد الحداثة قيمة أهمّ من قيمة الاستهلاك، ويجعل هذا الاستهلاك صحيًا ومجديًا، وأقصد بهذه القيمة: فضيلة الإبداع! لوحة العشاء الأول لاني كوركدجيان