لوحة "العشاء الأخير".. تلك اللوحة المليئة بالغموض والأسرار، فقد أُثير حولها الكثير من الجدل والعديد من التساؤلات؛ حيث تحتوي عددا من العناصر التي لا تنتمي إلى المفاهيم المسيحية التقليدية التي رسمت اللوحة في الأساس من أجل التعبير عنها. تُعدّ هذه اللوحة من أهم أعمال الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي، الذي قام برسمها عام 1498، وبذل فيها جهدا كبيرا حتى تخرج إلينا بهذه الصورة، وهي عبارة عن لوحة زيتية جدارية يبلغ حجمها 460 × 880 سم على امتداد جدار حجرة الطعام داخل دير القديسة "ماريا ديليه جراتسيه" في ميلانو بإيطاليا. ويُعدّ الفنان ليوناردو دا فينشي (1452 - 1519) من أشهر فناني عصر النهضة، وقد عرف كرسّام ونحّات ومعماري، وكان لفنه وأعماله أكبر الأثر على مدارس الفن بإيطاليا في ذلك العصر، وامتدّ بعد وفاته لأكثر من قرن. لوحة "العشاء الأخير" تُصوّر المسيح جالسا على المائدة مع 12 من حوارييه الذين يظهرون بهيئة بشرية بسيطة، فهم يتصرّفون وينفعلون مثل الناس العاديين. في الليلة التي سبقت خيانة المسيح من قبل أحد أتباعه، قام بجمعهم للطعام وأخبرهم بما سيحدث، واللوحة تحكي عن هذه اللحظات القليلة بعد أن ألقى المسيح على الحواريين مفاجأته، بأن أحدهم سيخونه قبيل شروق الشمس، واللوحة تكشف بوضوح عن ردود فعل الحواريين التي كانت مزيجا من الرعب والصدمة والغضب. وإلى جانب المسيح نفسه؛ فإن الشخصية المحورية في اللوحة هي شخصية يهوذا المتآمر الذي كان موقعه الخامس من اليسار، وقد تعمّد دافينشي رسم وجهه في الظل، بينما ظهر خلف يهوذا مباشرة بطرس بلحية بيضاء ووجه غاضب، متحدّثا إلى يوحنا المعمدان الذي يظهر بملامح أنثوية في نفس الوقت الذي يميل برأسه ليستمع إلى بطرس. يُقال إن دافينشي نجح كثيرا في تصوير الانفعالات على وجوه الشخصيات بمنتهى الدقة؛ وذلك بفضل الوقت الذي قضاه في دراسة التشريح، ويعتبر هذا أكثر ما يميّز "العشاء الأخير" عن عشرات اللوحات الأخرى التي تناولت نفس القصة. قام دافينشي بالتلوين المباشر بالزيت على الحائط لكي يتمكّن من الرسم وتنويع الألوان بحُرية أكبر، وعلى عكس ما اعتقد الكثيرون؛ فإن دافينشي لم يستعمل تقنية الفريسكو، وقد تسبّب ذلك في سرعة تلف اللوحة ودمارها، واحتياجها إلى عمليات ترميم متعددة، وحدث أول عملية ترميم لها بعد 20 عاما فقط من إنهائها. وقد تم ترميم اللوحة عدة مرات، وخلال عملية ترميم اللوحة في عام 1726 حاول الفنانون محاولات عدة لإعادتها إلى وضعها الأصلي إلا أن جميعها باءت بالفشل، وفي عام 1977 أجروا عدة محاولات أخرى باستخدام آخر ما توصّل إليه العلم آنذاك لإيقاف دمار وتدهور اللوحة، وقد تمّ استعادة معظم تفاصيل اللوحة بنجاح في ذلك الوقت؛ بالرغم من أن سطحها الخارجي كان قد تلف تماما ولم يبقَ له أثر. كان دافينشي قد رسم تلك اللوحة بناء على طلب دوق ميلانو الذي كان يريد منه تصوير تلك الواقعة التاريخية المهمة، وعمل دافينشي فيها ببطء شديد حيث استغرق في رسمها حوالي 18 سنة. وقد أثارت هذه اللوحة الكثير من التساؤلات حول شخصية ليوناردو دافينشي نفسه، وشخصية يوحنا المعمدان الذي كان موقعه إلى جانب المسيح في اللوحة، واختلفت مع ذلك رواية "شفرة دافينشي" فقدّمته الرواية على أنه مريم المجدلية. اتجه معظم الفنانين المعاصرين لدافينشي -بإيحاء من روايات التقليد الكنسي- إلى رسم يوحنا في لوحاتهم على أنه شاب يافع جدا لم تنبت لحيته بعد، وأنه ذو ملامح أنثوية، وقد اعتاد فنانو عصر النهضة على رسم الشبان في ذلك الوقت بهذا الشكل، وكانت هناك بعض اللوحات لهؤلاء الرسامين تُظهر الرسل الآخرين أيضا بنفس المظهر الأنثوي. يعتقد البعض بأن هذه اللوحة ضمن العديد من أعمال دافينشي تحتوي على إشارات خاصة إلى عقيدة سرية مخالفة للعقيدة المسيحية الكاثوليكية التي كانت ذات سلطة مطلقة في ذلك العصر. وتعتبر هذه اللوحة تحفة فنية بارزة في عالم الفن، وتُعدّ مفتاحا لانتشار هذا النوع من الفن بين جيل الفنانين المعاصرين لدافينشي، ويشير النقاد إلى أن هناك ملاحظة مهمة تتعلّق بالمنظور الفني الذي اتّبعه دافينشي في رسم عناصر اللوحة؛ فكل عنصر فيها يوجّه اهتمام الناظر إليها مباشرة إلى منتصفها، أي إلى رأس السيد المسيح نفسه، ويُقال إن "العشاء الأخير" هي أعظم مثال تم إبداعه عن منظر النقطة الواحدة. ويُقال إن لوحة "العشاء الأخير" تحوي سر نهاية العالم؛ ففي شكل النافذة نصف القمرية في أعلى اللوحة -التي تمثّل السيد المسيح مع حوارييه- أحجية حسابية وفلكية؛ فسّرها البعض على أنها تمثّل ما اعتبره دافينشي تاريخ نهاية العالم، عن طريق طوفان سيجتاح الأرض، ويبدأ يوم 21 مارس وينتهي في 1 نوفمبر من العام 4006، لتبدأ حين ذلك دورة جديدة من حياة البشرية. وأنت عزيزي القارئ.. هل تتوقع أن ينتهي العالم عام 4006، كما تنبأ بعض مفسري أسرار اللوحة؟
يمكنك الاطلاع على: "الطفل الباكي".. اللوحة التي أحرقت العالم! تمّ ترميم اللوحة عدة مرات وتمّ استعادة معظم تفاصيلها بنجاح * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: