في مثل هذا الوقت من كل عام تصل حالة الاستنفار ذروتها في أغلب البيوت المصرية، والسبب كابوس اسمه الثانوية العامة، على وقع التوتر الذي يصيب آلاف الأسر بسب صعوبة بعض الامتحانات، أو عمليات تسريبها، والتى استفحلت إلى أن بلغت ذروة تحديها بموقع "شاومينج بيغشش الامتحان" ما كاد يفرغ العملية التعليمية برمتها من مضمونها لولا الضوابط الصارمة التي أجهضت محاولات التسريب هذا العام.. وزاد من تعاظم هذا الكابوس في العقدين الأخيرين استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية، والتي عانت من استزافها ماديًا وما زالت ملايين الأسر المصرية بسبب "عبقري" الفيزياء و"جبرتى التاريخ" و"المنقذ" في الجغرافيا و"العلامة" في اللغة العربية و"فلتة زمانه" في اللغة الأجنبية و"سقراط " الفلسفة..وغيرها من الألقاب التى خلعها على أنفسهم أباطرة الدروس الخصوصية في غفلة من القانون، باعتبارهم بوابة المرور الآمن نحو كليات القمة لآلاف الطلاب.. أو هكذا يظنون. هذه المأساة التراجيدية في العملية التعليمية، والتى لم تعد مقصورة على الثانوية العامة، بل امتدت حتى لمراحل التعليم الأساسي، لن يُكتب لها الاستمرار في ظل التطورات المرتقبة في منظومة التعليم في العالم في المستقبل. فقد وضع العلماء تصورًا لملامح التعليم عام 2030، تتغير معها جذريًا الصورة التقليدية لما نراه اليوم في العملية التعليمية، فهل تتخيل أن الفصول المدرسية ستختفي، وسيصبح بإمكان كل فرد أن يتعلم داخل بيته، عبر أجهزة الكمبيوتر والواقع الافتراضى. ولن تكون الدولة بحاجة إلى بناء عشرات المدارس كل عام لاستيعاب ملايين الطلاب، لأن الفصول الدراسية بشكلها التقليدى ستختفى، بل سيكون عليها في المقابل أن توجه دعمها للعملية التعليمية إلى الوسائل التعليمية المساعدة من أجهزة كمبيوتر ومراكز "ذكية" لبث المواد التعليمية المتطورة، والتى تعتمد على التفاعل لا التلقين والحفظ بين الطالب والمدرس، وهذا بدوره يستلزم برامج تدريب متواصلة لتوفير المدرس "الذكى". ولأنه سيتم تسخير قوة الذكاء الاصطناعي لخدمة التعلم، ستختفي الكتب، ويتم تحميل المناهج الدراسية من شبكة الإنترنت بأشكال وطرق مختلفة أبرزها الخبرات المكتسبة من المحاكاة داخل الواقع الافتراضي التي تنقل الإنسان إلى أماكن افتراضية وخبرات متعددة. والأهم من ذلك أن التكنولوجيا ستوفر وسائل متطورة لتقويم الطلاب وإظهار بيانات دقيقة عن مستواهم الحقيقى دون "تزييف أو واسطة"، وكذلك ميولهم وقدراتهم بشكل مفصل، ومع هذه التطورات من المؤكد أنه ستختفى تمامًا ظواهر الدروس الخصوصية، وبالتبعية لن يكون هناك مكان ل"شاومينج" أو من على شاكلته بيننا. بالطبع من سابع المستحيلات تصور أن هذا التطور المرتقب في العملية التعليمية سيكون هو واقعًا ملموسًا في مصر خلال حتى عقدين من الزمن، فالتطورات المرتقبة في آليات التعليم وأدواته ومناهجه ومخرجاته بدءًا من العام 2030 بحاجة إلى جهد كبير من الفهم حتى يمكننا اللحاق بها، لكن على الأقل لابد أن نفكر من الآن في التطوير الجاد حتى تنفض العملية التعليمية عن نفسها غبار التراجع والتقهقر ليعود نظامنا التعليمي من جديد إلى قائمة التصنيف العالمي. وليس الحل هو نسف نظام الثانوية العامة أو إغلاق مكتب التنسيق، والذي أصبح هو الشغل الشاغل لأى وزير جديد، ظنًا منه أنه بذلك يضع بصمته في التغيير، بل التغيير ينبغي أن يبدأ بالاطلاع على أحدث نظم التعليم في العالم، وتمصيرها بما يتوافق مع ظروفنا وإمكاناتنا، على أن يبدأ التغيير أولا من "رياض الأطفال". وأهم خطوة في إحداث التغيير هو الإعداد التدريبي المكثف للمُدرس بشكل تختفي معه تمامًا صورة المُدرس المُلقن، وتحل محلها صورة المُدرس المتفاعل مع قدرات الطلاب، وأن تعتمد المناهج على الفهم لا التلقين والعمق لا السطحية، وأن تكون بعيدة عن أي حشو بلا معنى. هذه الأجيال من الطلاب الذين ستبدأ معها عملية التعليم المتطور من مرحلة رياض الأطفال، هم أنفسهم الذين سيرفضون نظام الثانوية العامة بشكله التقليدى، وهم الذين سيطالبون بإلغاء مكتب التنسيق، لأنهم سيتهمونه ساعتها بعدم العدالة في مراعاة قدراتهم وتطلعاتهم! وماذا يمنع لو حاولنا حتى مجرد الاطلاع على التجارب العلمية المتميزة في العالم، ولعل أبرزها وأهما التجربة الفنلندية، حيث يبتعد التعليم عن أساليب التلقين والحفظ، بل يهتم بتعليم الطلاب المهارات الأساسية، وتنمية التفكير والإبداع والنقد، وإكساب مهارات التعلم الذاتي لمواجهة ظاهرة انفجار المعرفة. غاية ما نتمناه أن يركز التعليم بشكل أساسي على العمق في المضمون المدروس، بدلًا من زيادة المضمون والتعامل معه بسطحية، وأن يكون الطالب هو محور العملية التعليمية، وهدف التعليم إعداد المتعلم للحياة بإكسابه المهارات والمعارف والقيم التي تمكنه من المساهمة في تقدم وطنه ورفاهيته واقتصاده، وليحقق نوعية حياة جيدة مُرضية له ولأسرته ولأبناء وطنه. ختاما .. رجاء خاص لوزير التعليم وكل وزير تعليم يأتى من بعده.. أرجوكم انسوا أي تغيير مفاجئ لنظام الثانوية العامة ومكتب التنسيق، وابدأو من رياض الأطفال مع عقول أسرع استجابة وتفاعلا وقبولا للتطوير، ومُدرس لم يعتد الحفظ والتلقين، ومناهج خالية من أىي حشو أو سطحية، بوسائل تقنية ذكية ستجعل من التعليم أكثر سهولة ويسرًا..