في 15 مايو من كل عام تتجدد ذكرى "نكبة العرب" فى فلسطين.. لتصبح الأرض غُصنًا لزيتون محترق، وقيدًا لأسير يرسف في الأغلال، وحجرًا في يد طفل تعلقت أحلامه برجم من أغتصب أرضه، ويبقى حلم اللاجئين نشيدا هادرا "سنرجع يومًا". ورغم حالة الحزن التى تبعثها ذكرى النكبة فى نفوس العرب جميعًا، إلا أن أوساط المبدعين من الكتاب والفنانين كانوا الأكثر تأثرًا بها وما استتبعها من أسر وقتل وتهجير. و تبقى التجربة "الفيروزية الرحبانية" حالة خاصة ومتفردة فى الرسالة التى يجب أن يؤديها الفنان في إعلاء قضايا أرضه وأمته، محطمين بسيف الإبداع حصونًا ظن المستعمر أنها ستحجب جرائمه عن أنظار العالم. لقد استهلت جارة القمر فيروز باكورة أعمالها عن "القضية الفلسطينية" عام 1954، حين شدت بنغمات الرحابنة وكلمات الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد بقصيدة " عائدون" والتي تحولت لنشيد الافتتاح لإذاعة "فلسطين" عند بدء تردد أثيرها من القاهرة. ومنذ ذلك الحين توالت الإبداعات الفنية لفيروز والرحابنة لتروى قصة أرضٍ أُغتصبت، وشعب بلغ به الشتات إلى أقصى أصقاع الأرض، فكانت أغنيات، القدس العتيقة، أجراس العودة، زهرة المدائن، خذوني إلى بيسان، جسر العودة، يا ربوع بلادي، يافا، سنرجع يوماً إلى حيّنا، سيف فليُشهر. ومع انطلاق معرضها الفني الأول في دمشق عام 1959، قدمت السيدة فيروز أولى أعمالها المسرحية المؤلفة من مجموعة مقاطع وأغنيات مكرسة لفلسطين ، وتناول العمل رسم صورة شعرية احتفالية للحياة الفلسطينية بطقوسها وأعيادها. بعد 10 سنوات من غناء "عائدون" ، عادت فيروز إلى القدس ، لتشدو في المدينة المقدسة أمام بابا الفاتيكان بولس السادس عام 1964. حين طافت فيروز فى شوارع القدس وأزقتها الضيقة، التف حولها النساء والأطفال، وأعربوا لها أنهم متيمون بقصيدة" عائدون" التى تبقى على آمالهم في عودة أراضيهم، وحين منحوها "مزهرية الورود" ، قالوا لها "دخيلك يا ست فيروز رجعي لنا فلسطين". عادت فيروز من القدس، وفي عينها دمعة وفي قلبها لوعة ، تبوح بحالة العذاب والمعاناة الذي يسيطر على الفلسطينيين. هنالك انفجر الغضب في شكل أغنية كتبها منصور رحبانى، ووضع ألحانها شقيقه عاصي زوج فيروز، حملت الأغنية اسم "القدس العتيقة"، وكانت " المزهرية" التى منحها لها أطفال فلسطين وحملتها معها إلى بيروت محور الأغنية، التى تقول كلماتها: مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة قدام الدكاكين اللي بقيت من فلسطين نحكي سوا الخبرية وعطيوني مزهرية قالوا لي هيدى هدية من الناس الناطرين يا صوتي ضلك طاير زوبع بها الضماير خبرهم ع اللي صاير بلكي بيوعا الضمير فور تسجيل الأغنية، منحت بلدية القدس مفتاح المدينة المقدسة المصنوع من خشب الزيتون لجارة القمر فيروز، اعترافا بدورها في خدمة القضية الفلسطينية. انطلق صوت فيروز قويا مدويا غداة نكسة 1967 "الغضب الساطع آت" حيث شدت بأيقونة الأغاني الفلسطينية "زهرة المدائن" ، خاطبت عيونا ترحل إلى المدينة المقدسة، وقلوبا ارتبطت بليلة الإسراء وآلام السيد المسيح. مأساة اللاجئين الفلسطينيين، اتخذت منحى أشد قوة في أعمال فيروز بقصائد مثل "ردني إلى بلادي ..مع نسائم الغوادي ..مع شعاعة تغاوت عند شاطئ ووادي"، وقصيدة "سنرجع يوما" ، حتى أنها عبرت عن أحلامهم فى العودة من خلال أعمالها السينمائية، حيث شدت بأغنية "نسم علينا الهوى" لتنهيها قائلة "خدني على بلادي" ، وذلك فى فيلم بنت الحارس عام 1965. وحين أشعلت نيران الحقد الصهيونية لتلتهم المسجد الأقصى ومنبر صلاح الدين الأيوبي عام 1969، كان الرد الفيروزي الرحبانى فوريا حاضرا ، لم تك أغنية أو قصيدة هذه المرة، بل مسرحية غنائية خالدة ، حملت اسم " جبال الصوان". اسم المسرحية قويا معبرا يوحى بأن صلابة المقاومة تحاكى قسوة أحجار الصوان، فعزيمتها لا تلين، وصمودها لا يتراجع. لقد أدت فيروز فى المسرحية دور الفتاة"غربة" التى فقدت أباها القائد الذى دافع عن مدينة "جبال الصوان" حتى استشهد على بوابتها مدافعا عنها من العدو المستعمر. وبعد 10 سنوات تعود "غربة" إلى جبال الصوان، : "التاج على مفرق رأسها…النذر يلوح من عيونها…مكتوب على جبينها قصّة بوّابة جبال الصوان". تصدت غربة لبطش زعيم المستعمرين ويدعى "فاتك" ، كما نجحت فى عزل الخائن " شهوان" ، فهو إن كان من قومها، إلا أنه يشى بأسرارهم إلى العدو. عالجت فيروز فى " جبال الصوان" قضية الأسرى بقولها :" لاتخافوا ما في حبس يساع كلّ الناس.. يعتقلوا كتير، بيبقى كتير.. وباللي يبقوا رح نكمّل". وفى النهاية استشهدت "غربة" فى أحد أعراس القرية، اغتالها "فاتك" على مدخل "بوابة جبال الصوان" كما قتل أبيها من قبل، فى دلالة على أن الاستشهاد يصير عرسا فى طريق المقاومة. وبنظرة حالمة لم تخل منها أعمال الرحابنة، فقد قرر فاتك أن يرحل بعد أن رأى عبث القتل والاحتلال وضعفه أمام صلابة المقاومة، هكذا قرر الاحتلال أن ينسحب من تلقاء نفسه، حيث قال المستعمر " فاتك": عَبَث كل اللي صار.. عَبَث اللي بَدُّو يصير.. قتلنا الأب.. قتلنا البنت، وْعَبَث، شو بَدْنا نِقْتُل تَ نقْتُل؟، ما بَقى رَح تِخْلَص الْقِصَّة ". اليوم وبعد 69 عامًا من النكبة، لا يجد أطفال فلسطين خيارا غير الأحجار ليقذفوها في وجه قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكأنهم قد فتتوا تلك الأحجار من "جبال الصوان" التى أرستها فيروز عام 1969، فإن لم يرحل الاحتلال ولم ييأس أمام استمرار المقاومة كما فعل في مسرحية فيروز، فلاشك أن صوتها سيبقى شامخا ليروى كفاح شعب لن يلين حتى يسترد أرضه وحريته.