تبدو الصوفية – الأجواء الصوفية بما تقدمه من تجربة مفعمة بالروحانية- عامل جذب شهد رواجًا في السنوات الأخيرة، وتكفي نظرة سريعة على إيرادات الحفلات التي تقيمها الفرق الفنية الصوفية أو المنشدون الصوفيون لتأكيد ذلك. هذا الاهتمام هو الذي منح رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق رواجًا كبيرًا في عدة بلدان حول العالم، وبخاصة في مصر، يشهد على ذلك عدد النسخ المباعة بشكل رسمي، أو التي تم ترويجها بشكل غير شرعي ككتب مزورة، أو مصورة عبر الإنترنت. وهذا الرواج أيضًا للأجواء الصوفية هو الذي جعل مسرحية "قواعد العشق 40" للمخرج عادل حسان، المأخوذة عن الرواية نفسها، مثار اهتمام كبير حتى قبل عرضها. وكمسرحية مأخوذة عن عمل روائي من الصعب على المشاهد أن يمنع نفسه من أن يقارن بين العملين، لا من نظرة ضيقة تتبع مدى تقيد العمل المسرحي بأحداث العمل الروائي، لكن بنظرة تتبع مدى نجاح العمل الدرامي في الخروج ب"جوهر" العمل الروائي. نشرت إليف شافاق روايتها عام 2010، وتدور أحداثها في خطين دراميين، أحدهما في أمريكا عام 2008، والآخر في قونية بين عامي 1246 و1247. وفي كلا الزمنين يشهد العالم أحداثًا دامية، وصراعات وحروبًا تخلف آلاف القتلى والمشردين. ففي الخط الدرامي المعاصر لم يكن قد مضى سوى 5 أعوام على الغزو الأمريكي للعراق، وكانت الحرب مشتعلة في إفريقيا بين الأنظمة والتيارات الراديكالية المتمردة، بخلاف حروب أهلية مذهبية في دول آسيا. وفي الخط الدرامي التاريخي، القرن الثالث عشر، كان خطر الغزو المغولي يتهدد الشرق، بل والعالم أجمع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الغزو الصليبي، أو كما تقول الرواية "مسيحيون يقتلون مسيحيين، ومسيحيون يقتلون مسلمين، ومسلمون يقتلون مسلمين". ولا سبيل للخروج من ذلك، هكذا ترى الكاتبة، سوى بالحب، وما من مثال على الحب، الحب المطلق والمجرد سوى الصوفية، من هنا يأتي الرومي، وشمس التبريزي. ولعل الأحداث الإرهابية، والخطاب العنصري الطائفي، ودعوات الكراهية ونبذ الآخر، التي تشهدها مصر الآن تلقي بظلالها على العمل الدرامي المصري، وتمنحه الخلفية نفسها، ونقطة الانطلاق نفسها التي اتخذتها الكاتبة التركية في روايتها، على أن يبقى الرهان على مدى قدرة العمل الدرامي على عدم الوقوع في شرك الخطاب الموجه، أو الصيغة الوعظية التي تغري كثيرًا من الأعمال الموجهة للغرض نفسه. يبدو تخلي صناع العمل عن الخط الدرامي المعاصر وجيهًا من ناحية الزمن، لا بمبدأ الوحدة الأرسطية الشهيرة، ولكن لصعوبة الربط بين الزمنين خلال الوقت الزمني المتاح للعرض على المسرح، مع ما يتطلبه ذلك من حيل واستراتيجيات درامية تمكن القارئ من الربط بسهولة بين الزمنين، رغم أن هذا الفصل، أو التخلي عن أحد الخطين الدراميين ربما يقلص من دلالة الخط الدرامي التاريخي "حياة الرومي وعلاقته بشمس"، التي قدمت لها الكاتبة شروحًا وافية غير مباشرة من خلال علاقة (إيلا/ عزيز) في الخط الدرامي المعاصر. يضاف إلى عنصر المساحة الزمنية، وما تفرضه على العمل من قيود، المساحة المفردة للأغنيات – أو للإنشاد- الصوفي، وهي المساحة الكبيرة نسبيًا التي تحتلها أغنيات متعددة خلال عرض مدته ساعتان تقريبًا، التي ربما قلصت من المساحة الممنوحة للدراما نفسها، لتفرض احتمالية الانجراف نحو رغبة الجمهور في التمتع بالأجواء الصوفية من موسيقى ورقص وإنشاد على المشهد. المسرح فن صراع، هكذا كان منذ القدم، منذ أن كان ساحة لمعركة تدور بين إرادة الآلهة وأقدارهم من جهة، وإرادة البشر المتمردين من جهة، في المسرح الإغريقي. لذلك فإن عملًا مسرحيًا موضوعه الحب من المفترض أن يستدعي الطرف الآخر من المعادلة، الكراهية، كما يقول الرومي من أن النقيض يبرز نقيضه، أو كما يقول الشاعر "والضد يبرز حسنه الضد". فهل كان العمل موفقًا في استدعاء هذه الثنائية الأزلية، ثنائية (الحب/ الكراهية)، وتجسيدها من خلال أدوات الكاتبة والمخرج الدرامية؟ في حين يمثل شمس التبريزي في الأساس، وتلميذة جلال الدين الرومي بعد ذلك، الطرف الأول، الحب، ثم ثلاثة أشخاص يمثلون الطرف الثاني، الكراهية: علاء الدين ابن الرومي، الحارس بيبرس، والشيخ حسني، رجل الدين. في المسرحية، كما في الرواية لا يبدو علاء الدين ممثلًا للكراهية بشكل واضح، رغم كراهيته لشمس، هو فقط يكرهه لإضراره بسمعة أبيه، ولأنه سيخطف حبيبته كيميا (صراع من أجل الحب)، وكذلك بيبرس، الذي لا يبدو أنه يحمل ظهيرًا فكريًا لكراهيته، يبقى الشيخ حسني. ولما كان الحوار هو القناة التي يمر منها الصراع، فإن الصراع قد يبدو باهتًا بين شمس/ الرومي من جهة، وبين الشيخ من جهة أخرى؛ فالحوارات بينهم تكاد تكون منعدمة، اللهم إلا حوارًا بين شمس وبين الشيخ في حلقة الدرس، هذا الحوار الذي قلصه العمل المسرحي كثيرًا مقارنة بالرواية. ورغم أن الرواية لم تزد على ذلك فيما يخص الحوار بين الشخصيات المتصارعة، فإنها عوضت ذلك بمقاطع سردية كاملة بطلها الشيخ نفسه الذي يحدثنا بضمير المتكلم، فيما يشبه المونولوج الذي تفضي فيه الشخصية بما في سريرتها، هذا المونولوج الذي يغيب بشكل كامل أيضًا. يضاف إلى ذلك ما قد يعد تسطيحًا لشخصية الشيخ من الناحيتين الشكلية والنفسية، ليبدو الأمر وكأن الصورة النمطية لرجال الدين في السينما قد أغوت صناع العمل، لتتكلم الشخصية بلهجة ممطوطة كوميدية – إلى حد أنها انتزعت الضحكات من الجمهور- لا تتناسب مع مقدار ما تحمله الشخصية من كراهية. ولعل هذا الغياب للصراع المباشر المتمثل في الحوار أو حتى المونولوج قد أفضى إلى خروج الخطاب الرئيس للعمل – الحب- بطريقة خطابية شبه مباشرة، تتمثل في إلقاء القواعد بطريقة خارجة أحيانًا عن العمل، سواءً من خلال إحدى الشخصيات، الذي ربما هو شيخ التكية، موجهة إلى الجمهور مباشرة، أو من خلال صوت خارجي، موجه أيضًا للجمهور. تنتصر شافاق في روايتها للرؤية الصوفية للأديان، هذه الرؤية التي ترى الأديان جميعًا تتفق في الجوهر، وهو عبادة الله وحده، وحبه، ووحدة الوجود، والتوحد بين الإنسان – الذي خلقه الله على صورته- والله، لذلك توجه – على لسان شخصياتها- نقدًا لاذعًا للفكر الديني التقليدي، وفكرة العبادة بناءً على مبدأ الثواب والعقاب. "لا يعنيني الحلال ولا الحرام. فأنا أفضل أن أطفئ نار جهنم، وأن أحرق الجنة؛ حتى يحب الناس الله من أجل الحب الخالص". هكذا يقول شمس التبريزي في حواره مع كيميا. ونرى الرومي في موضوع آخر يقول بعد أن هم بشرب الخمر: "إن المبادئ والقيود الدينية مهمة، لكنها يجب ألا تتحول إلى محرمات، بهذا الفهم أجرع الخمر التي تعطيني إياها اليوم". تعد محاولة إسقاط هذا الفهم الصوفي للأديان (بخاصة هذا الشكل من الصوفية) على الخطاب الطائفي الذي تشهده مصر اليوم، من حيث استعداء البعض للمسيحيين، محاولة صعبة؛ ذلك أن قد تخرج بجوهر هذه الفكرية الصوفية من رحابتها إلى منطقة ضيقة لتمثل الصوفية الإسلامية التقليدية. ولمعرفة الفرق بوضوح يمكن المقارنة بين خطاب الرومي أو الحلاج – الصوفيين الوجوديين إن جاز التعبير- اللذين قد يمثل الفكر الوجودي الإسلامي على يد عبد الرزاق جبران امتدادًا لهما من ناحية، والإمام أبي حامد الغزالي من ناحية أخرى، مع مراعاة موقف رجال الدين من كل منهما. تحتفظ كيرا، زوجة الرومي المسيحية التي دخلت الإسلام، بنقش نقشته للسيدة العذراء مريم التي ظنت أنها بدخولها الإسلام لابد أن تتخلى عن حبها، ليدخل شمس ويرى الأيقونة فيدور حوار بينهما، فتحاول كيرا أن تتنصل من حبها لمريم. يبدو رد التبريزي بأنها يمكن أن تحتفظ بحب مريم "لأننا لدينا مريم" تضييقًا لرؤية التبريزي الصوفية، وخروجًا بها من وجوديتها إلى خطاب تقليدي فلا ضير من محبة السيدة العذراء لأنك تؤمن باصطفاء الله لها وتؤمن بنبوة المسيح. في حين تظل هذه الوجودية في الرواية برحابتها "الأديان كالأنهار، تصب جميعها في البحر نفسه؛ إذ ترمز الأم مريم إلى الشفقة والرحمة والحب غير المشروط. إنها رمز للجميع". وربما يبدو النزول من درجة الصوفية المنفتحة على الأديان جميعها إلى درجة الخطاب التقليدي هو الذي دفع صناع لعمل لتحييد شخصية سليمان السكران، وتقليص مساحتها بشكل كبير، وهي الشخصية التي – رغم وقوعه في خطيئة السكر وإدمان الشراب- تتفق مع الرومي والتبريزي في كيل الانتقاد للمتدينين التقليديين. من الاتهامات الموجهة للخطاب الصوفي الانعزال عن الواقع وتجاهل الضرورات المادية التي لا يمكن للغالبية العظمى من الناس التخلص منها، ربما لذلك تتحول شخصية الحلاج في مسرح صلاح عبد الصبور إلى شخصية ترى انتقاد الحاكم الظالم، والوقوف بصف العامة الذين تم إفقارهم لب الصوفية، لا "الخرقة". هذا الاتهام توجهه إحدى شخصيات الرواية – المتسول المجزوم- للرومي؛ إذا يتساءل المجزوم "ما الذي يعرفه الرومي عن المعاناة؟"، وذلك أثناء استماعه لخطبة الرومي عن المعاناة والترغيب فيها، وهو ابن الأسرة الميسورة الذي لم يختلط سوى بالنبلاء. هذا التساؤل تنقله المسرحية ربما بحذافيره، ولكن في حين قدمت الرواية إجابة عن هذا التساؤل يتوقف العمل المسرحي عند السؤال. في الرواية يقول الرومي في حوار مع التبريزي: "إنك محق، فقد عشت حياة رغيدة، حتى إنني لا أعرف كيف يعيش الناس العاديون". "قواعد العشق 40"، مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتبة التركية إليف شافاق، دراماتورج وإشراف على الكتابة رشا عبد المنعم، شارك في الكتابة: ياسمين إمام، خيري الفخراني. بطولة بهاء ثروت، فوزية، عزت زين، دينا أحمد، ياسر أبو العينين، هاني عبد الحي، محمد عبد الرشيد، إيهاب بكير، هشام علي، المطربة أميرة أبو زيد، والمنشد سمير عزمي، حسام أبو السعود، هاني ماهر، إسلام بشبيشي، بمشاركة فرقة المولوية العربية، وموسيقى وألحان محمد حسني، ديكور مصطفى حامد، إضاءة إبراهيم الفرن، وأزياء مها عبدالرحمن،، وإخراج عادل حسان.