الصراع السياسي والديني حول العقائد، والصراع حول الأفكار والنظريات بين الفقهاء وعلماء الكلام أو المتحدثين بالمنطق، ليس صراعًا جديدًا، بل قديمًا قدم العقل. هذا الصراع الفكري والذي أحيانا يؤدي لصراع دموي كان له تأثير كبير علي العلماء، وبالأخص علماء الدين ولم يسلم من ذلك الأئمة الاربعة " أبو حنيفة النعمان إمام طريق أهل الرأي، ومالك بن أنس إمام طريق أهل السنة، والإمام الشافعي ويجمع بين طريقين النقل والعقل معا، والإمام أحمد إبن حنبل امام طريق أهل الإتباع". وأكد علي هذا الكاتب سليمان فياض في كتابه " الأئمة الأربعة" الصادر حديثا كملحق مع العدد الجديد من مجلة "الدوحة". وقال فياض بمقدمة كتابه الذي يتناول حياة هؤلاء الأئمة الأربعة، وعملهم، وعصرهم، وشخصية كل منهم، وفقهه، ورؤيته في العقائد وفي السياسة علي السواء، " ليس بينهم فقيه لم يتعرض في حياته لمحنة، كادت تودي بحياته، أو أودت بها، بسبب السياسة غالبا، وقد باعدوا بينهم وبينها، وبسبب هذا الصراع السياسي المرير بين كل من الأمويين والعباسيين من جهة، والعلويين من جهة أخري، وذلك الصراع الدامي في العقائد، بين نظرة الفقهاء، ونظرة علماء الكلام". ويؤكد فياض في كتابه ان هؤلاء الأئمة الأربعة هم من جمعوا الفقه المتناثر الابواب والموضوعات، في حقبتي الصحابة والتابعين، وأضيف إليه الكثير، ووضعت له الأسس والأصول، وصار علما متعدد الدروب، غنيا بثروته الفقهية والتشريعية، في زمن لا يزيد عن مائة عام إلا قليلا، وفي مدائن أربع هي بغداد، والمدينة، ومكة، والقاهرة. ويتناول الكاتب في أربع فصول بعدد الأئمة، حيث أفرد الكتاب كل فصل لإمام يتناول حياته وفقهه ومدرسته. في الفصل الاول "أبو حنيفة النعمان" قال فياض علي لسان الشيخ "محمد أبو زهرة" أن تاريخ الفقة الإسلامي لم يعرف إماما في الفقه كثر مادحوه، وكثر ناقدوه ، مثل الإمام "أبو حنيفة" لأنه كان فقيها مستقلا، سلك في تفكيره الإجتهادي مسلكا مستقلا. ووصفت الأجيال المتعاقبة الإمام أبو حنيفة ب"الإمام الأعظم"، ومن المحن التي تعرض لها أبو حنيفة أنه بعد قضاء الأمويين علي ثورات العلويين التي كان يؤازرها العلماء والفقهاء، قرر الأمويين محاسبة هؤلاء العلماء، عن طريق اختبار ولاءهم لبني امية. ودعا ابن هبيرة إليه بأبي حنيفة في ديوان الإمارة وعرض عليه العمل معه لكن أبو حنيفة رفض، عندئذ أقسم ابن هبيرة أن يسجن أبا حنيفة ويضربه، وتم ذلك بالفعل وضرب لأيام متتالية، ثم هرب ابن حنيفة من العراق إلي مكة. وكانت المحنة الثانية لأبي حنيفة عندما قام بالتجريح في قضاء أبي ليلي بشكوي الذي إشتكاه بدوره للخليفة المنصور وكان صفو علاقته بأبي حنيفة متعكرا في تلك الفترة، وسار صدام بينهم الذي أدي إلي حبس الفقية وجلده كل يوم عشرة أسواط. وفي الفصل الثاني "مالك بن أنس" أكد الكاتب أن الإمام مالك أيضا تعرض لمحن كثيرة منها في عهد أبي جعفر المنصور إذ ضرب بالسياط ومدت يداه حتي انخلعت كتفاه، لأنه عند خروج محمد بن عبد الله علي الخلافة العباسية، تصادف أن مالكا كان يحدث الناس آنذاك بحديث "ليس لمستكره طلاق"، ووجد الناس في هذا الحديث ما يدل علي أنه بالمثل ليس لمستكره بيعة، ولذلك فلا بيعة لمنصور، ووجد الكائدون لمالك فرصة للكيد له عند الوالي وقد كان. وكان الإمام "الشافعي" محور الفصل الثالث لم يسلم هو الأخر من ظلم الحكام والتعرض للمحن، لأنه كعالم راح ينقد والي نجران، لذا راح الوالي يكيد له بالدس والوشاية عند الخليفة العباسي وقد نجح في ذلك، وكاد أن يقتله الخليفة هارون الرشيد، لولا حجته، وشهادة بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة. أما إمام الإتباع "أحمد بن حنبل" الذ أفرد له الكاتب الفصل الرابع فقد تعرض لمحنة عظمي إذ أن الخليفة المأمون وكان صاحبا للمعتزلة كان يقول مثلما يقولون أن القرآن الكريم مخلوق ومحدث، وأراد من الفقهاء أن يقولوا مقالته في خلق القرآن ومنهم الإمام أحمد بن حنبل لكنه رفض وأصر علي قوله أن القرآن كلام الله، لذا تعرض لمحنة مدوية استمرت في عهد المأمون وفي عهد المعتصم والواثق من بعده، لقي فيها العذاب، فطوال 28 شهرا كان يضرب بالسياط إلي أن يغمي عليه، وينخس بالسيف فلا يحس، وحين يأس معذبوه أطلقوا سراحه، ثم جاء الخليفة الواثق وأعاد محنة بن حنبل عن طريق منعه من إلقاء درسه في المسجد أو غيره ومنعه من أي اجتماع مع الناس، وجاء المتوكل بعد الواثق وأوقف هذا الضطهاد. ورحم الله العلماء والفقهاء الذين كانوا دائما بمثابة شهادةالحق في وجه كل حاكم ظالم.