ضرب أبو حنيفة على القضاء مرتين فقد أراده عمر بن هبيرة على القضاء فأبى فحلف ليضربنه بالسياط على رأسه و ليسجننه ، و فعل حتى انتفخ وجه أبى حنيفة و رأسه من الضرب ، فقال رحمه الله: الضرب فى الدنيا بالسياط أهون من مقامع الحديد فى الآخرة ، ثم جاء أبو جعفر المنصور فنقله من الكوفة إلى بغداد و أراد أن يوليه القضاء فأبى فحلف عليه ليفعلن فحلف أبو حنيفة لا يفعل ، فقال الربيع بن يونس الحاجب لأبى حنيفة : ألا ترى أن أمير المؤمنين يحلف ؟ فقال أبو حنيفة : أمير المؤمنين أقدر منى على كفارة يمينه ، فأمر به إلى السجن فلم يقبل القضاء فضربه مائة سوط و حبس إلى أن مات. وفى رواية أخرى توفى أبو حنيفة ببغداد سنة 150 من الهجرة عن عمر يناهز سبعين عاما ، و هو العام الذى ولد فيه الإمام الشافعى ، و قيل إن الخليفة المنصور سقاه سما لمساندته إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن على رضى الله عنهم أجمعين، و أيا كانت الرواية فالمفهوم منها أن هذا الرجل الإمام، بل هو إمام الأئمة الذى ولد بعد ثمانين عاما فقط من الهجرة، والذى أخذ جل علمه عن تسعة من الصحابة وثلاثة و تسعين من التابعين و أربعة آلاف عالم من تابعى التابعين، هذا الرجل يموت تلك الميتة الدرامية المؤسفة لا لشىء إلا حب آل البيت ورغبته فى البعد بعلمه عن لعبة السياسة القذرة. وكان يقول فى المنصور و أشباهه : لو أرادوا بناء مسجد و راودونى على عد آجرها قوالب الطوب الخاصة بالبناء لما فعلت. أما مولده فكان فى الكوفة حيث سماه أبوه ثابت « النعمان « تيمناً بأحد ملوك فارس، فهو من أسرة فارسية ترجع إلى أصول أفغانية موطنها الأصلى مدينة كابل بأفغانستان، وحين أنعم الله على جده زوطا بالإسلام دخل فى بنى تيم الله بن ثعلبة و تأثر بما سمع من الإمام على رضى الله عنه ، وكان معه و من أتباعه ، وورث أبو حنيفة عن أبيه و جده حبا لآل البيت صادف قلبا خاليا فتمكن منه، و لقد أوغر ميله إلى الأئمة من آل البيت صدور الأمويين و العباسيين عليه - على السواء مما كان له أثره فى حياته، و قد مات أبوه قبل أن يشتد عوده و تولت أمه تربيته وتنشئته. فى كابل والتى كانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، فى هذه المدينة قضى النعمان معظم حياته متعلماً وعالماً، وتردد فى صباه الباكر بعد أن حفظ القرآن على هذه الحلقات، لكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة مع أبيه ، فلما رآه عامر الشعبى الفقيه الكبير ولمح ما فيه من مخايل الذكاء ورجاحة العقل أوصاه بمجالسة العلماء والنظر فى العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، وكان من كثرة اهتمامهِ يقضى الوقت فى الطواف على المجالس حاملاً أوراقه وقلمه، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم فى بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف ولزم دروس الفقه عند حماد بن أبى سليمان فى الكوفة ، و اشتهر أبو حنيفة بورعه ، وكان تاجراً مشهوراً بالصدقِ والأمانة والوفاء 0 وبعد موت شيخه حماد بن أبى سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبى حنيفة، وهو فى الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذه ينهلون من علمه وفقهه، وكانت له طريقة مبتكرة فى حل المسائل والقضايا التى كانت تُطرح فى حلقته؛ فلم يكن يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلى كل منهم برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه صائبا، حتى تُقتل القضية بحثاً، ويجتمع أبو حنيفة وتلاميذه على رأى واحد يقررونه جميعا. وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من مالهِ، مثلما فعل مع تلميذه أبى يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة، يقول أبو يوسف المتوفى سنة (182ه = 797م): «وكان يعولنى وعيالى عشرين سنة، وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حماداً –يقصد شيخه- ما رأيت أجمع للخصال المحمودة منه». وكان مع اشتغاله يعمل بالتجارة، حيث كان له محل فى الكوفة لبيع الخزّ (الحرير)، يقوم عليه شريك له، فأعانه ذلك على الاستمرار فى خدمة العلم، والتفرغ للفقه. مذهب أبى حنيفة فى الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه، وأجملها هو فى قوله : « ما جاءنا عن الله ورسوله قبلناه على العين و على الرأس ، وما أتانا عن الصحابة اخترنا أحسنه و لم نخرج عن أقاويلهم، و ما جاءنا عن التابعين فهم رجال و نحن رجال. ويروى عنه أنه قال: رأيت فى المنام كأننى نبشت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجت عظامه فاحتضنتها، فهالنى ذلك فدخلت على ابن سيرين وقصصتها عليه فقال : إن صدقت رؤياك لتحيين سنة محمد صلى الله عليه و سلم. ولم يقف اجتهاد أبى حنيفة عند المسائل التى تعرض عليه أو التى تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التى لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاماً، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه ، حيث وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع ، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس. ولقد قضى الإمام أبو حنيفة عمرهُ فى التعليم والتدريس و تخرج عليه الكثير من الفقهاء والعلماء، ومنهم ولدهُ حماد ابن أبى حنيفة، ولم يؤثر عن أبى حنيفة أنه كتب كتاباً فى الفقه يجمع آراءه وفتاواه ، ولكن مذهبه بقى وانتشر ولم يندثر كما أندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذهِ الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان أشهر هؤلاء: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصارى المتوفى عام(183ه/799م)، ومحمد بن الحسن الشيبانى المتوفى فى عام(189ه/805م)، وزفر بن الهذيل، وهم الذين قعدوا القواعد وأصلوا الأصول فى المذهب الحنفي. أما أبوحنيفة فكان يقول فى شيوخه وتلاميذه على السواء: ما صليت صلاة مُنذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإنى لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو علمته علما. كتب ظاهر الرواية وقد وصلت إلينا كتب محمد بن الحسن الشيبانى كاملة، وكان منها ما أطلق عليه العلماء كتب ظاهر الرواية، وهى كتب المبسوط والزيادات، والجامع الكبير والجامع الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، وسميت بكتب ظاهر الرواية ، لأنها رويت عن الثقات من تلاميذه ، وقد جمع أبو الفضل المروزى المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة 344ه كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها فى كتاب أطلق عليه «الكافي»، ثم قام بشرحه شمس الأئمة السرخسى المتوفى سنة 483ه فى كتابه «المبسوط»، وهو مطبوع فى ثلاثين جزءاً، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها. وانتشر مذهب أبى حنيفة فى البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضى القضاة فى الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمى لها، كما كان مذهب السلاجقة والدولة الغزنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع فى أكثر البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده فى مصر والشام والعراق وأفغانستان وباكستان والهند والصين وتركيا والسعودية. قال عنه النضر بن شميل: «كان الناس نياماً عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه»، وبلغ من سمو منزلته فى الفقه أن قال فيهِ الإمام الشافعى: «الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة». الأستاذ المعلم و روى أن أبا حنيفة كان جالسا يوما بالمسجد فدخل عليه مجموعة من الخوارج شاهرى سيوفهم فقالوا : يا أبا حنيفة نسألك عن مسألتين فإن أجبت نجوت و إلا قتلناك، قال اغمدوا سيوفكم فإنى برؤيتها يشتغل قلبى، قالوا كيف نغمدها و نحن نحتسب الأجر الجزيل بإغمادها فى رقبتك، فقال سلوا إذن، فقالوا جنازتان على الباب أحدهما رجل شرب الخمر فغص فمات سكران، و الأخرى امرأة حملت حملا من الزنا فماتت فى ولادتها قبل التوبة، أهما كافران أم مؤمنان؟ و القوم السائلون مذهبهم التكفير بارتكاب ذنب واحد، فإن قال مؤمنان قتلوه ، فقال : من أى فرقة كانا من اليهود ؟ قالوا لا، فإنهما من النصارى؟ قالوا لا، قال: من مجوس؟ قالوا لا، قال أمن عبدة الأوثان؟ قالوا لا، قال: ممن كانا ؟ قالوا من المسلمين، قال قد أجبتم، قالوا كيف؟ قال: قد اعترفتم أنهما كانا من المسلمين، ومن كان من المسلمين كيف تجعلونهما من الكافرين، قالوا: هما فى الجنة أم فى النار ؟ قال: أقول فيهما ما قال إبراهيم الخليل صلى الله عليه و سلم فى حق من هو شر منهما «فمن تبعنى فإنه منى و من عصانى فإنك غفور رحيم» ، أو أقول ماقال عيسى روح الله فيمن هو شر منهما «إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم». و قد تعرض الإمام أبو حنيف لكثير من الفرق ومن الحوارات المشهورة هذا الجدال مع الملحدين، سألوه: فى أى سنة وجد ربك؟ قال: الله موجود قبل التاريخ والأزمنة لا أول لوجوده ثم قال لهم: ماذا قبل الأربعة؟ قالوا: ثلاثة ، قال لهم: ماذا قبل الثلاثة؟ قالوا: اثنان ، قال لهم: ماذا قبل الاثنين؟ قالوا: واحد ، قال لهم : وما قبل الواحد ؟ قالوا : لا شيء قبله.. قال لهم: إذا كان الواحد الحسابى لا شيء قبله فكيف بالواحد الحقيقى وهو الله إنه قديم لا أول لوجوده. قالوا: فى أى جهة يتجه ربك؟ قال: لو أحضرتم مصباحا فى مكان مظلم إلى أى جهة يتجه النور قالوا: فى كل مكان قال: إذا كان هذا النور الصناعى (أى الذى يعمل بالزيت) فكيف بنور السماوات والأرض؟ قالوا: عرّفنا شيئا عن ذات ربك؟ فقال: هل جلستم بجوار مريض مشرف على النزع الأخير؟ قالوا: جلسنا قال: هل كلمكم بعدما أسكته الموت؟ قالوا: لا قال: هل كان قبل الموت يتكلم ويتحرك؟ قالوا: نعم قال: ما الذى غيره؟ قالوا: خروج روحه قال: أخرجت روحه؟ قالوا: نعم قال: صفوا لى هذه الروح هل هى صلبة كالحديد أم سائلة كالماء أم غازية كالدخان والبخار؟ قالوا: لا نعرف شيئا عنها قال: إذا كانت الروح المخلوقة لا يمكنكم الوصول إلى كنهها فكيف تريدون منى أن أصف لكم الذات الإلهية؟ * * * يذكر المؤرخ أبو بكر بن أحمد أن والد الإمام أبى حنيفة «ثابت» هو الذى أهدى إلى الإمام على بن أبى طالب حلوى الفالوذج فى عيد النيروز و هو عيد الربيع عند الفرس فدعا له على رضى الله عنه فكان أبو حنيفة يقول : أنا فى بركة دعوة صدرت من على بن أبى طالب لأبى أو فى حقى.