الصحة: «المسؤولية الطبية» دخل حيز التنفيذ.. ولن ننتظر ال6 أشهر الخاصة بالتفعيل    تنطلق 31 مايو.. جدول امتحانات الصف الثالث الإعدادي التيرم الثاني 2025 في الشرقية    انطلاق المرحلة الأولى من الموجة ال26 لإزالة التعديات على أملاك الدولة في الفيوم    قانون الإيجار القديم... التوازن الضروري بين العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية    ملك البحرين والرئيس السوري يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات    ناجتس وواريورز أبطال دوري NBA jr مصر في نسخته الثانية    الأهلي يحصل على توقيع محمد سيحا حارس المقاولون العرب    ابن يطلق النار على والده بسبب رفضه إعطائه أموال لشراء المخدرات في الفيوم    "بسبب ماس كهربائى" مصرع وإصابة ثلاثة أشخاص إثر نشوب حريق داخل حوش مواشى فى أسيوط    24 يونيو.. الحكم على 19 متهما ب«الانضمام لجماعة إرهابية» في المرج    وزير الصحة: نعمل على تفعيل المسئولية الطبية وتيسير اشتراطات تسجيل الأطباء في درجاتهم المختلفة    «الإحصاء»: 1.3% معدل التضخم الشهري خلال أبريل 2025    قرار تأديب القضاة بالسير في إجراءات المحاكمة لا يعتبر اتهام أو إحالة    38 درجة فى الظل.. الأرصاد تحذر المواطنين من الوقوف تحت أشعة الشمس    تفعيل المسرح المتنقل والقوافل للوصول بالخدمات الثقافية لقرى شمال سيناء    وصول جثمان زوجة محمد مصطفى شردى لمسجد الشرطة    مهرجان SITFY-POLAND للمونودراما يعلن أسماء لجنة تحكيم دورته 2    بريطانيا.. فوز «الإصلاح» تغيير فى المشهد السياسى    مديرية أمن القاهرة تنظم حملة تبرع بالدم بمشاركة عدد من رجال الشرطة    بيتر وجيه مساعدا لوزير الصحة لشئون الطب العلاجى    طريقة عمل الكيكة بالليمون، طعم مميز ووصفة سريعة التحضير    شئون البيئة: التحول للصناعة الخضراء ضرورة لتعزيز التنافسية وتقليل الأعباء البيئية    وزير الخارجية يترأس الاجتماع الوزاري الرابع للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان    رئيس صحة النواب: مخصصات الصحة في موازنة 2026 الكبرى في تاريخ مصر    رئيس الوزراء العراقي يوجه بإعادة 500 متدرب عراقي من باكستان    «لوفتهانزا» الألمانية تمدد تعليق رحلاتها من وإلى تل أبيب    صحة غزة: أكثر من 10 آلاف شهيد وجريح منذ استئناف حرب الإبادة    جيروساليم بوست: ترامب قد يعترف بدولة فلسطين خلال قمة السعودية المقبلة    جامعة أسيوط تُشارك في ورشة عمل فرنكوفونية لدعم النشر العلمي باللغة الفرنسية بالإسكندرية    فيلم سيكو سيكو يواصل تصدر الإيرادات    أنغام تحيي حفلاً غنائيًا فى عمان وسط حضور جمهور كثيف وتقدم أكثر من 25 أغنية    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    أبرز ما تناولته الصحف العالمية عن التصعيد الإسرائيلي في غزة    الحكومة المكسيكية تعلن أنها ستقاضي "جوجل" بسبب تغيير اسمها إلى خليج المكسيك    وفود دولية رفيعة المستوى منها عدد من وفود منظمة (D-8) تزور متحف الحضارة    محافظ أسوان: توريد 170 ألف طن من القمح بالصوامع والشون حتى الآن    تنظيم ندوة «صورة الطفل في الدراما المصرية» بالمجلس الأعلى للثقافة    جنايات المنصورة...تأجيل قضية مذبحة المعصرة لجلسة 14 مايو    هيئة التأمين الصحي الشامل توقع اتفاقًا مع جامعة قناة السويس    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الكلام وحده لايكفي !?    تعرف على مواعيد مباريات الزمالك المقبلة في الدوري المصري.. البداية أمام بيراميدز    المحكمة الدستورية تؤكد: شروط رأس المال والتأمين للشركات السياحية مشروعة    تحرير 16 محضرا لمخالفات تموينية في كفرالشيخ    المتحف المصري الكبير يستقبل فخامة رئيس جمهورية جزر القمر ووزيرة التعليم والثقافة اليابانية    أنشأ محطة بث تليفزيوني.. سقوط عصابة القنوات المشفرة في المنوفية    مصر تستضيف الجمعية العمومية للاتحاد العربي للمحاربين القدماء وضحايا الحرب    اليوم.. انطلاق الجولة 35 ببطولة دوري المحترفين    استثمارات 159 مليون دولار.. رئيس الوزراء يتفقد محطة دحرجة السيارات RORO    «الصحة» تعلن تدريب أكثر من 5 آلاف ممرض وتنفيذ زيارات ميدانية ب7 محافظات    خبر في الجول - زيزو يحضر جلسة التحقيق في الزمالك    الرمادي يعقد جلسة مع لاعبي الزمالك قبل مواجهة بيراميدز    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    حاجة الأمة إلى رجل الدولة    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع جارسيا بيمنتا    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية السبت 10 مايو 2025    موعد مباراة الاتحاد السكندري ضد غزل المحلة في دوري نايل والقنوات الناقلة    حبس لص المساكن بالخليفة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيناء وقناة السويس . . الجغرافيا الاقتصادية والرؤى الاستراتيجية
نشر في الأهرام الاقتصادي يوم 27 - 11 - 2012

تعتبر قناة السويس من ضمن أهم قلاع الاقتصادات العالمية وبالتالي الاقتصاد المصري الواقعة علي أكثر الجبهات الاستراتيجية حساسية لتفاعلات المتغيرات التي تمثل أهم حيويات التقدم ومؤشرات استمراره وبدون إدراك أهمية ذلك ستتسع الفجوة ما بين واقع نتج عن سوء التخطيط والإدارة ومتوقع أهملت آليات ووسائل تحقيقه وفي أغلب الأحوال فإن السرعة المحسوبة والإنفاق المقيس بدقة والتوقيتات المنضبطة هي مفاتيح النجاح وهي أنجح الأدوات لتحقيق الأهداف ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال قراءة استراتيجية واسعة المدي عميقة الإدراك .
هذه القراءة ستفتح مجال آفاق أوشكت بحسب الاعتياد علي الفكر البيروقراطي الوئيد الإبداع أن تطمس أهم معالم الابتكار الخلاق فيها ، فقناة السويس كانت أبرز تحول جيوستراتيجي شهدته الكرة الأرضية في مستهل النصف الثاني من القرن التاسع عشر لأنها حققت حلما ظل يراود العالم علي مدي أحقاب من الزمن . هذا الحلم كان محط تفسيره لحسن الطالع يقع في هذه البقعة العبقرية التي تمثل نفوذا جغرافيا بالغ التأثير وسلطة ومحورية في مجال التواصل . وكذلك جاءت هذه القناة لتكون اسرع وأنسب الطرق التجارية تحقيقا لتطلعات المراكز والتكتلات التجارية الدولية . كما أن هذه القناة بقيت قطبا نقليا قدم ميزات لوجستية غير مسبوقة بنظير لأسواق الصادرات وأسواق الواردات بما يرتبط بها من شبكات الإنتاج والتوزيع وأسواق الاستهلاك التي رفعت من مستوي معيشة الشعوب وحسنت من سوية حياتها . يضاف إلي ذلك أن القناة كانت الوسيط والوسيلة التي تجاوبت مع تطلعات التطوير لدي كثير من أقطار العالم التي سعت سعيا حثيثا إلي الدخول في سباقات التقدم . القناة كانت محفزا فعالا حدا بعديد من دول العالم لتحدي الزمن ابتغاء الفوز بمغانم النفاذ إلي مواقع القوة الاقتصادية التي تقوم علي توسيع نصيبها في كعكعة التجارة البحرية التي راحت تنمو بمعدلات فائقة السرعة . فالثابت من وقائع التاريخ أن القناة كانت اختراعا عالميا في زمن كان مترعا بالتحديات المنشطة لقوي الابتكارات التي بدورها تتحدي هذه التحديات . وقد حاول العالم بشتي الطرق أن يفيد إلي أقصي مدي من هذه القناة لمواكبة رساميله الاقتصادية لاسيما التجارية وعلي نحو خاص المحمول منها بحرا . ففي كل المخططات الكبري للتجارة الدولية المنقولة بحرا كانت قناة السويس حاضرة بوزنها الاستراتيجي وتأثيرها الاقتصادي اللذين لايمكن إغفال قيمتهما العملية باعتبارهما مكونا فعالا في حسابات القيم المضافة الاقتصادية . قد يكون من لزوميات ضبط المصطلحات أهمية الإشارة إلي أن مصطلح
Development" في اللغة الإنجليزية يتضمن معني التنمية كما يتضمن معني التطوير وكل منهما في واقع الأمر يمثل أحد وجهي عملة واحدة ويقدمان رؤي علمية وعملية لمناهج إصلاح وتحسين استراتيجية البناء الحضاري علي نحو مطرد. السؤال الذي بقي يصبو إلي إجابة شافية لفهم غموض ما كان يحدث في الماضي هو لماذا استمر اهتمام التخطيط العمراني بأبعاده في أعقاب حفر قناة السويس منصبا علي الشريط الجغرافي المحاذي لها من ناحية الغرب من لدن بورسعيد شمالا إلي مدينة السويس جنوبا دون إيلاء الشريط الجغرافي الملاصق لها من ناحية الشرق أية عناية عمرانية ؟ هذه المدن الثلاثة التي تطل علي قناة السويس بقيت مواجهة علي الضفة الشرقية بصحراوات ظلت مسيطرة علي النسبة الكبري من مثلث شبه جزيرة سيناء الذي تبلغ مساحته 61 ألف كيلو متر مربع أي 6.1من جملة مساحة مصر الكلية . هذه المعادلة الواهنة العلاقات أفضت إلي إضعاف عري الترابط التنموي والتطويري ما بين هذه المكونات الجيوستراتيجية . والملاحظ أن نقاط مراكز القوة علي كلا الناحيتين لم تحظ بما كانت جديرة به من رؤي وتخطيط استراتيجي بعيد المدي مما نزع عن المجري الملاحي لقناة السويس إمكان تراكم مضاعفات الاستقواء الاقتصادي الذي يتجاوز في ترسيخ قوته التطويرية الحصائل النقدية المتمثلة في رسوم المرور التي أوشكت أن تصبح هي قدس الأقداس في حسابات الأوزان التنموية للقناة وما يحيط بها من غلاف أرضي. هناك تأمل يتأرجح ما بين فرضيات الشك وثوابت اليقين مؤداه هو هل مازالت السويس علي دراية أكيدة بمدي قيمتها الحقيقية في معادلات القوي الاقتصادية المؤثرة علي سطح الكرة الأرضية ؟ وما هي نوعيات الحلول الاستراتيجية التي تتبناها علي نحو قاطع الإدراك لمشهديات " سيناريوهات " التحولات والتحورات والتفاعلات العولمية ؟ هل هي حلول بالتنازل الاستراتيجية عن وزنها ومكانتها وما تملكه من مفاتيح القوة الاقتصادية أو هي حلول بالتعارض مع ما تمليه عليها ممكنات الاستثمار لما هو ممكن ومما هو محتمل من عوامل التميز المدعوم بما تقدمه من فوائد لوجستية تتسم بالفرادة أم هي حلول بالتوافق المرن مع متطلبات الفوز في سباقات المصالح المتبادلة والمنافع المشتركة ؟ فمن الثابت في التحليلات الاقتصادية أن قناة السويس تميزت عن طريق الحرير البرية التي كانت تقطع مسافات طوال من عند الصين في جنوب شرق آسيا حتي تركيا " ديار بكر" في أقصي شمال شرقي آسيا ثم منها إلي جهة مقصودة "Destination" في أوربا . هذه الرحلة كانت لوجستياتها مسرفة في مشقتها التي تمر في سباسب وأودية وسلاسل جبال"mountain ranges" دون خدمات وتسهيلات معينة علي تذليل الصعاب التي بقيت لآماد من الزمن تشكل عوائق مجهدة للطاقة ومستهلكة للوقت ومبددة للمال بصورة لاتعين علي الحيلولة دون تبديد إمكانيات التطوير الاقتصادي الذي خضع الاعتماد علي قوافل الجمال " سفن الصحراء" التي تتجاوز حمولة سفينة بحرية واحدة ما تحمله عشرات المئات منها . يضاف إلي ذلك أن التراكمات الرأسمالية والنمو الاقتصادي المتولد عن هذه الرحلات التي تستطيل أزمنتها ما بين الذهاب والإياب كان يتسم بالضآلة النسبية . فإذا طبقنا عليها مبدأ أن التجارة تعد ضمن أهم عناصر الحضارة قدم لنا ذلك تفسيرا جليا لبطء إسهام هذه الطرق التجارية في تمهل خطأ التقدم الحضاري آنذاك . وتشكل الفوارق في ازدواج المعايير معلما بارزا علي الكيفية التي تعاملت بها القناة منذ تدشين العمل مع ضفتيها الشرقية والغربية . ففي الوقت الذي عكفت فيه علي معاملة ضفتها الغربية بمنطق الأداء الإداري والتخطيطي المندمج في استراتيجية تطويرية واحدة ، أسقطت من اهتمامها الضفة الشرقية . وكان ذلك سببا مباشرا في إبقاء شبه جزيرة سيناء بثرواتها الكامنة والمتاحة خارج سياق مضاعفة تسارع خطي التنمية في منطقة الشمال الشرقي لمصر هذه البقعة التي تمثل قنطرة وصل ما بين قارة آسيا وإفريقيا كما تمثل شرفة تطل منها علي قارة أوربا . مجري القناة في حد ذاته ينقسم إلي ثلاث دوائر استراتيجية متداخلة ومتشابكة وهي الدائرة الاستراتيجية الشمالية التي تشمل مدينة بورسعيد وبور فؤاد والامتدادات المائية في البحر المتوسط والدائرة المتوسطة الاستراتيجية الوسطي وهي الدائرة الأرضية لمدينة الإسماعيلية وامتداداتها الشرقية في شبه جزيرة سيناء والدائرة الاستراتيجية الجنوبية وهي تتكون من مدينة السويس وخليج السويس والامتدادات الأرضية المقابلة لها عند قمة المثلث السيناوي . هذه الخريطة العاملة تحمل تفاصيلها خطوطا هامة في حال تحليل نقاط القوة ومواطن الضعف فالامتدادات الجغرافية شأنها شأن أي مورد من الموارد الطبيعية إما أن تكون معينا من معينات الاستثمارات التنموية وإما أن تكون عبئا يؤثر سلبا علي موازين التطوير الاقتصادي وتفيد رؤوس الاموال المالية والتكنولوجية والبشرية وتوسيع دائرة الثراء الحضاري بصفة عامة . فمن حيث التقسيم الوظيفي هناك " جغرفيا تجارية" وهناك جغرفيا أوسع نطاقا ومهاما وهي " الجغرافيا الاقتصادية" وبحكم الموقع والموضع فإن هذا النطاق الجغرافي بين الخاصيتين.إلا أن غياب الانساق المتفاعلة ما بين البيئة الطبيعية والتوزيع البشري والانشطة الاقتصادية أصاب المنطقة بعطالة اعاقتها عن توظيف مقوماتها توظيفا جيدا وفعالا فلاشك أن الموقع الجغرافي يعد ركيزة بالغة الأهمية من ركائز التنمية كما يعد ميزة بارزة من الميزات التنافسية لاسيما أن القيم المضافة منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي ومنها ما هو موقعي ومنها ما هو موضعي .
والتطور العام لمجمل عمليات التحديث التنموي والتطوير الاقتصادي في المنطقة لا تتكامل أبعاده إلا إذا وضعنا سياسات وبرامج للنهوض الاقتصادي والاجتماعي متواكبة ومتزامنة للامتدادات الأرضية الواقعة شرقي القناة والامتدادات الأرضية الواقعة غربها حتي تتعادل وتتكامل في دعم هذه الثروات الجغرافية وإعادة هيكلتها لترقي إلي مستوي ممكناتها ومقوماتها وما يمكن لها أن تؤديه في مضمار الوظائف والتخصصات الاقتصادية الدولية في عصر العولمية وفيما يلي عصر العولمة من مراحل زمنية أخري . بمعايير التحليل التاريخي فإن هذه المنطقة منذ نشأتها في أعقاب افتتاح مجري قناة السويس قد عانت من اختلال في التنمية المتوازنة لازمها واستمر في التفاقم المتصاعد مع مرور الوقت لأسباب جوهرية يمكن حصر أهمها في النقاط التالية.
أولا : في العصر الحديث شهد القرن التاسع عشر نقلتين هامتين في مسار الاقتصاد المصري أولاهما تمثلت في التطور الزراعي النوعي والتطور الصناعي الكيفي في عهد محمد علي "1805 1849" وكان ذلك إيذانا بولوج مصر في حقبة تاريخية جديدة تميزت بحدوث ثورة تطويرية علي المستوي الاجتماعي وتأهبت مصر للانخراط في عداد الدول الحديثة التي تنهض علي ركائز " سوسيو اقتصادية" وطيدة وكان ذلك نقطة تحول بالغة الدلالة علي مدي امتلاك مصر لمفاتيح التقدم إدارة وموقعا وقوي إجتماعية هذا النهوض الذاتي كان ترجمانا لممكنات الاستقواء الذاتي في زمن كان تعداد الشعب المصري فيه أقل من 3 ملايين نسمة ومساحة الأراضي الزراعية زهاء 3 ملايين فدان وموقعها الفريد ينطوي علي ممكنات قائمة واعتمالات مستقبلة ذات ثراء عريض وليس أدل علي ذلك من أن تفتح المستقبل عن بعض تجليات هذه الاحتمالات برز بقوة حيث بدئ في مشروع شق قناة السويس "1859 1869" الذي تولي نقل البناء الاقتصاد المصري إلي صعيد دولي أكثر انفتاحا وأرقي تقدما .
ففي الطور الأول كان تعزيز قدرات الاقتصاد القومي قائما علي الإنتاج السادي الزراعي والصناعي بيد أنه في الطور الثاني بدأتعضيد هذا الاقتصاد علي دعامات المنتجات اللوجستية ذات الطابع الدولي . وبذلك أرسيت ركائز اقتصاد بقوم علي التكامل الأفقي والرأسي تمتزج فيه المنتجات العينية بالمنتجات الخدمية علي أسس من التنوع المتجاوب مع متطلبات السوقين المحلية والعالمية . القاعدة الإنتاجية الملاحية واللوجستية لقناة السويس هي التي في واقع الأمر أوجدتها حاجة الطلب العالمي الذي كانت الاقتصادات العالمية لأسباب عدة ملحة لكنها ستتحمل أعباء ومهام الحفاظ علي القوي الاستهلاكية لهذه الأسواق الاقتصادية التي استمرت في التوسع والتطور والبحث عن نوعيات من الخدمات تساير مراحل النمو والتقدم . كان الاعتقاد الدائم لدي قناة السويس أن أقصي ما تطمح إليه علي المستوي الهندسي هو تعميق المجري الملاحي لتلبية متطلبات اجساد السفن المارة بها إلي حد محدد واعتبار المجري المائي الاحادي هو كل ما لديها من خطط ورؤي تطويرية علي الرغم من أي تحورات تكنولوجية وهندسية تصل إليها ترسانات بناء السفن في العالم . وبقي ازدواج حركة المرور في القناة رفاهية بيروقراطية مهما كانت الضرورات التي تدعو إليها .
فالقناة وفق هذا المعتقد البيروقراطي الذي تغذيه المسلمات الاحتكارية المنغلقة علي نفسها ستبقي سيدة كل المواقف ولن ينزلها عن عرشها أي تطور مهما كانت قوي تأثيره الاقتصادية والاستراتيجية . هذا الاعتقاد اصبح بمرور الوقت عرضه لدحض ما يتشبث به من قناعة هشة.
ثانيا : لا يمكن الزعم علي الأقل وفق ما هو متاح من الوثائق أن التخطيط العمراني الشامل فضلا عن التخطيط الاقتصادي الكامل للحزامين الأرضيين علي ضفتي القناة كان محل اهتمام سواء الشركة العالمية لقناة السويس البحرية أو الحكومات أو المصرية علي مدار ما يربو علي "142" عاما هي عمر قناة السويس حتي الان عام "2011" فالأصل أن الشركة العالمية كان جل اهتمامها متجها إلي إنشاء مستوطنة إدارية علي الضفة الغربية " حينما ستكون فيما بعد مدينتا بورسعيد والإسماعلية" لإقامة جماعة الموظفين الذين سيعهد إليهم بشئون إدارة مجري قناة السويس بحيث تكون مهام هذه المستوطنة مهام لوجستية .
وبفعل ذلك كان ابرز العناصر المسيطرة علي حضارة هذه المنطقة هو العنصر الاقتصاد الذي ادي إلي صيانة العنصر الثقافي والاجتماعي بما يتجاوب مع أهداف ومآرب هذه الهيكلة الاقتصادية شديدة التركيز علي المكونات الاقتصادية واستطرادا لذلك فإن المعاهد العلمية والمؤسسات التخطيطية لم يكن لها وجود في هذه المنطقة الجغرافية . وعلي ذلك فإن التخطيط العمراني ذا الوظائف الاقتصادية المعززة لقناة السويس ظل غائبا ولم تنل المنطقة ما كانت تستحق من مخططات حضارية تتواءم مع وزنها الاستراتيجي المتعدد المستويات ومن البراهين الموضحة لذلك أن المنطقة في عمومها من أقصي شمالها إلي أقصي جنوبها لم تشهد في ذلك الإبان الأعمال المرتبطة بأنشطة مجري قناة السويس .
علي العموم فقد غيرت القناة من أوضاع الخريطة الجغرافية المصرية ومرتسمات البني الاقتصادية إلا أنها لم تفعل مثل ذلك بنسب متوافقة مع شاطئيها الافريقي والآسيوي . ففي ذات الوقت الذي تفاعلت فيه الجغرافيا من الديموجرافيا بصورة ديناميكية نسبية علي الشاطئ الغربي تقاصرت عن ذلك علي الشاطئ الشرقي مما حال دون خروجه من عزلته التي سلبت فرصته للاندماج في مجمل عمليات التنمية المتجددة والمستدامة . كانت نظرية الأواني المستطرقة غائبة مما أدي إلي تخميل جغرافي وتنشيط حيز جغرافي آخر وبسبب ذلك تحولت المنطقة علي نحو ما إلي "ممر ملاحي" وليس إلي " ممر اقتصادي" هذا الممر الملاحي ارتبط ارتباطا محددا بالإنتاج البحري المحدد التوجهات التي اقتصرت علي لوجستيات المرور وعدد من الخدمات المعاونة المرتبطة بها دون الالتفات إلي ما هو أوسع من ذلك من إيجاد قواعد إنتاجية ولوجستية أكثر تنوعا وأعمق اتصالا بالاقتصادات العالمية .
تجربة أخري أثبتت هشوشة هذا الاقتصاد وهي مرحلة إغلاق قناة السويس في عام 1956 وما بين 1967 إلي 1975 فقد بدأ جليأ أن توقف هذا المورد قد وضع منطقة القناة برمتها علي شفا الإفلاس الاقتصادي الكامل . إن الإصرار علي اعتبار ان قناة السويس ستبقي هي البقرة الحلوب للاقتصاد القومي البحري تصور تعوزه معاودة النظر في مدي سلامته لأن هناك موارد أخري لا ينبغي إغفالها. ثالثا: الانتفاع الايجابي بالموارد المتاحة والمتجددة هو لب الاقتصاد الذي بدونه لاترقي الامم . ومن ضمن أهم هذه الموارد الموقع الجغرافي . ولكن لاينبغي أن تختزل أهمية الموقع الجغرافي في قناة السويس علي وجه الحصر لأن قناة السويس جزء من جغرافيا أشمل منها أهمية بحيث لايمكن الارتكاز إلي الزعم بأن قناة السويس هي التي أسبغت علي الموقع المصري قيمته الاستراتيجية وأقصي ما يمكن قوله هو أنها كانت عنصرا مساعدا وليس عنصرا رئيسا . في هذا الشأن وان كانت بفعل قوة تأثيرها الاقتصادي في محيطها قد تحولت إلي محور إجتماعي وثقافي وعمراني وقطب جاذب لنزوح محلي وهجرة خارجية لفترات متتابعة من الوقت . هذا المركب الأخير كان دافعا إلي المقارنة المثيرة للاهتمام فقد استمر اتساع الفجوة التنموية ما بين الشاطئين محرضا علي تساؤلات لم تلق إجابات حاسمة عنها حتي الان .
ففي الوقت الذي وصل تعداد المجتمع البورسعيدي إلي قرابة 650 ألف نسمة يقيمون علي مساحة أرضية مقدارها 1450 كيلو مترا مربعا بمتوسط 450 نسمة في الكيلو متر مربع بلغ إجمالي تعداد سكان سيناء 300 ألف نسمة بمتوسط 1.25 في الكيلو متر المربع وبذا تبلغ النسبة الثانية إلي الأولي 2علي سبيل المثال برغم أن مساحة سيناء تبلغ 42 ضعفا من مساحة بورسعيد وبرغم أن سيناء تعد من أكثر مناطق قناة السويس ثراء في الموارد الطبيعية علي الموقع الجغرافي بفذاذة وزنه الاستراتيجي فإن المخطط التنموي أعرض عنها ونأي بجانبه ولم يمنحها أدني قسط من العناية برغم أنها منجم اقتصادي وكنز لممكنات التوسع الديموجرافي . القناة وشاطئها الشرقي كانا كأنهما يعيشان في عالمين منفصلين لاتجمع بينهما حقيقة الواقع المشترك والمصلحة المتبادلة بحيث يمكن تصور أنه إذا كانت القناة هي المايسترو فهذا الامتداد الأرضي فائق القيمة هو فرقة العزف المجسدة لما في " نوتة" التنمية . ففي مجال التصنيع كان بوسع الشاطئين الغربي والشرقي للقناة أن يكونا قاعدتين لنوعيات من الصناعات التي تعتمد علي تكنولوجيات متنوعة المستويات التي تلبي الاحتياجات العالمية من قبيل . أولا عمليات التصنيع بالمعالجات المتعاقبة .ثانيا الصناعات التركيبية .
ثالثا الصناعات ذات كثافة الأيدي العاملة . الأمر الذي لا ينبغي أن يغيب عن التحليل التاريخي لسيرورة البناء الاقتصادي في هذه المنطقة أن الشركة العالمية لقناة السويس البحرية كان أغلب اهتمامها التنموي مكرسا لدعم الرأسمالية الاجنبية لاسيما الأوروبية ومحاباتها في إقامة مشروعاتها الاقتصادية ، والدارس للاقتصاد في المنطقة سيجد أن الأنشطة المرتبطة بمجري قناة السويس وفي الانشطة التابعة الاخري الخدمية والتجارية كانت مملوكة لهذه الرأسمالية وجميعها أنشأتها لبناء وصيانة وإصلاح العائمات البحرية في الشاطئ الشرقي إلي جانب مجموعة من المخازن.
رابعا : وبما أن الزمن هو أهم معينات التنمية والتقدم فإن إغفال تطوير الشاطئ الشرقي للقناة بحسبانه جزءا من سيناء أهدر فرصا اتيحت علي نحو مطرد لاشراك هذه البقعة في مجمل تنتيج قدراتها التي حرم من اسهاماتها الاقتصاد القومي لعقود متوالية من الزمن ومن المرجح أن يكون قد أسهم في ذلك عاملان أثرا علي الاستغلال الأمثل لها . العامل الأول هو تصور أن إنشاء مشروعات إنتاجية فيها ربما اقتضي التأثير علي انسياب حركة تدفق المرور في مجري القناة . هذا التصور يرد إلي شركة قناة السويس الأجنبية التي أورثته بالتالي لمن خلفوها. والعامل الثاني هو أن المخطط التنموي المصري ظلت تسيطر عليه أن هذه البقعة تنتمي إلي سيناء التي بقيت في الحسابات الاقتصادية مجرد منطقة عازلة والاستشهاد بالحقائق والأرقام سيقودنا إلي مقارنات تستحق أن نقف أمامها بإمعان فجملة ما هو مشغول بالسكان والأنشطة علي تنوعها من جملة مساحة مصر الكلية البالغة مليون كيلو مترا مربعا لايعدو 60 ألف كيلو مترا مربعا ما يربو قليلا علي "6" وهي تقريبا نفس مساحة سيناء البالغة 61 ألف كيلو مترا مربعا .
في منطقة قناة السويس من شمالها إلي جنوبها لاينبغي الاعتماد علي المجري الملاحي باعتباره أهم مكونات الناتج المحلي الإجمالي بصورة مطلقة فعائدات رسوم المرور في القناة من الأرشد اقتصاديا أن تنضم إليها حزمة من عائدات أنشطة اقتصادية متكاملة ومتضافرة ومستمرة . فكلما ازداد وزن قناة السويس في غياب فعاليات الأنشطة الاخري ازداد الاعتقاد في أنها هي الجواد الرابح الذي لا يمكن أن يضاهيه مكون آخر ومن ثم تبقي التنمية أسيرة لهذا المفهوم الذي يتسم من الناحية العملية بالعوار .
وبعد تجارب تنموية مرت بها مصر منذ افتتاح القناة لم يعد من حصافة الفكر الاقتصادي تجاهل الأوزان المرجحة للجغرافيا والديموجرافيا والعلاقات الدولية والتطورات العالمية التي لاتكف عن إيجاد ظروف منشئة لقوانين التحدي والاستجابة وكلها عناصر حاكمة في معادلات البحث عن موقع مؤثر في مركباتها . فحتي الان لم تسهم الضفة الشرقية للقناة بفعل مباشر في بناء ركائز اقتصادية تعين علي إدماج اقتصاد منطقة القناة وبالتالي الاقتصاد القومي في منظومات الاقتصادات الدولية . وقد كان ذلك سببا رئيسا في تأخر خطط العمران بتعدد مشتملاته وأنماطه مما جعل ذلك وثيق الصلة بازدياد الفجوة بين ما كان سيحدث وما هو حادث بالفعل من تنمية عصرية . في ستينيات القرن العشرين كانت مصر متقدمة علي كوريا الجنوبية والصين في صناعة السفن وجراء مداومة تنمية وتطوير هذه الصناعة عالية القيم المضافة تقدم هذان البلدان وتخلفت مصر واحتلا المركزين الثاني والثالث علي مستوي العالم في هذه الصناعة التي تجمع ما بين الصناعات الثلاثة الانفة الذكر . كذلك فقدت مواني القناة مركزها باعتبارها محطة تزويد السفن بالوقود بعد أن كانت في الماضي محورا عالميا لإمداد أساطيل السفن بحاجاتها من الوقود وحين تقاصرت عن أداء هذه المهمة حلت محلها ماليزيا محققة مليارات من الدولارات من هذا النشاط الدولي.
محاضر في الاقتصاد البحري وصناعة اللوجستيات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.