ربما يكون شبح انهيار اليورو قد توارى فى الوقت الحالى، ولكن تعافى العملة الاوروبية الموحدة وحل ازمة الديون سوف يستغرق سنوات من اجل اصلاح الميزانيات وخفض الانفاق فى دول مثل اليونان، البرتغال، اسبانيا، ايطاليا، التى شهدت احتجاجات عنيفة وواسعة النطاق مؤخرا، غير انه بدأت تلوح فى الأفق مشكلة اكبر قد تفوق ايا مما سبق وهى ما يتعلق بتدهور حالة الاقتصاد الفرنسى، الذى حذر منه صندوق النقد الدولى قبل اسابيع قليلة وصورته مجلة الايكونوميست بأنه قنبلة موقوتة فى قلب اوروبا. التقرير الخاص الذى نشرته المجلة عن فرنسا الاسبوع الماضى يحذر من خطورة الاوضاع الاقتصادية فى البلاد بما يهدد مستقبل اليورو ويثير شكوكا حول مدى كفاية جهود الاصلاح والقدرة على خفض العجز حيث قال: فرنسا كانت دائما هى الراعية الاولى لليورو وكذلك للاتحاد الاوروبى اذ دعا الرئيس الفرنسى السابق فرانسوا ميتران لتطبيق عملة موحدة املا فى تعزيز النفوذ الفرنسى داخل الاتحاد الاوروبى فى مقابل ألمانيا الموحدة. وبالفعل حققت فرنسا مكاسب كبيرة بفضل اليورو مع اقتراضها بمعدلات منخفضة على نحو غير مسبوق وكذلك تجنب الكثير من المشاكل التى عانت منها دول البحر الابيض المتوسط. ولكن حتى قبل تولى فرانسوا اولاند فى شهر مايو الماضى مقاليد الحكم كأول رئيس اشتراكى منذ ميتران، تخلت فرنسا عن ادارة ازمة اليورو لصالح المانيا، والآن يبدو اقتصادها وعلى نحو متزايد ضعيفا ويتجه بهدوء نحو كارثة جديدة. وفرنسا لديها نقاط قوة وضعف فهناك نجاحات على مستوى السوق الحرة، ولكن مع وجود العديد من المشاكل بسبب هيمنة الدولة، حققت انجازات اقتصادية وكذلك قصص الفشل ظاهرة للعيان، وتلك التناقضات تجعل من فرنسا عملة ذات وجهين وجه مضىء والآخر مظلم. وفيما يتعلق بالجانب السلبى فقد ادت ازمة اليورو الى تفاقم عوامل الضعف الفرنسى فلعدة سنوات تراجعت تنافسية فرنسا لصالح المانيا لاسيما مع خفض الالمان لتكاليف التصنيع وقيامهم بإصلاحات مهمة لتعزيز الانتاجية والتنافسية. ومع عدم القدرة على خفض قيمة العملة وزيادة الانفاق الحكومى اصبحت فرنسا تستهلك تنفق ما يقرب من 57% من ناتجها المحلى وهى اعلى نسبة للانفاق العام فى منطقة اليورو وبسبب الفشل فى تحقيق توازن الميزانية منذ عام 1981 ارتفع الدين العام من 22% من الناتج المحلى الاجمالى الى اكثر من 90% حاليا، وفى طريقه للمزيد من الارتفاع بما يوحى بان البلاد ستعانى من عجز دائم فى الميزانية، وكل هذا يفسر خسارتها لتصنيفها الائتمانى الممتاز AAAمن قبل وكالة ستاندرد آند بورز فى شهر يناير الماضى، علاوة على ذلك شهد مناخ الاعمال الفرنسى تراجعا ملحوظا حيث يتم تحصيل ضرائب باهظة من اصحاب الثروات والارباح والدخول العالية. هناك عداء تجاه الرأسمالية واضطهاد للاغنياء فتعانى الشركات الفرنسية من ارتفاع غير عادى فى فاتورة الضرائب والتأمينات مقارنة بدول منطقة اليورو كما يفتقر سوق العمل للمرونة، وهو ما يفسر فى نهاية الامر انخفاض عدد الشركات الجديدة حتى انه لم يتم قيد اي شركة جديدة فى مؤشر كاك 40 منذ بداية عمله فى عام 1987 . واليوم لدى فرنسا عدد اقل من الشركات الصغيرة والمتوسطة التى تعد محرك نمو الوظائف مقارنة بالمانيا، ايطاليا، بريطانيا. ومع ذلك، هناك جانب آخر ايجابى ففرنسا هى خامس اكبر اقتصاد فى العالم وسادس اكبرمصدر، فى النصف الاول من عام 2012 كانت رابع اكبر متلق للاستثمارات الاجنبية المباشرة ولديها عدد اكبر من الشركات المتعددة الجنسيات الكبيرة فى مؤشر فورتشن 500 العالمى مقارنة ببريطانيا.. كما تتميز البلاد بشبكة جيدة من البنية التحتية والطاقة علاوة على سمعة جامعاتها على المستوى العالمى، واخيرا وليس اخرا هى من افضل الوجهات السياحية فى العالم. يتبين مما سبق ان كلا الوجهين لعملة واحدة، ومعظم الفرنسيين يتمتعون بمستوى معيشى مرتفع وخلال العام الماضى كانت اسواق المال رحيمة بفرنسا حتى بعد انتخاب رئيس اشتراكى وسمحت لها بالاقتراض بمعدلات فائدة منخفضة عند مستويات قياسية بلغت 2%، غير ان النمو قد توقف تقريبا والاقتصاد على شفا ازمة ركود للمرة الثانية فى خمس سنوات والعديد من الشركات الكبيرة تفكر فى ان تحذو حذو بيجو وتغلق مصانعها، وقد ارتفع معدل البطالة مؤخرا الى اكثر من 3 ملايين بنسبة 10% وبين الشباب يصل الى 25%. من المؤكد ان فرنسا كانت اكثر ترددا وبطئا من الدول الاخرى فى اوروبا بالنسبة لاصلاح سوق العمل ونظام المعاشات والضمان الاجتماعى وحسبما اشار صندوق النقد الدولى مؤخرا فانها قد تتخلف عن ايطاليا، اسبانيا، اليونان، البرتغال فى الاصلاح اللازم. وأحد التداعيات هو تراجع التنافسية فعندما تم تطبيق العملة الموحدة فى عام 1999 كانت تكاليف العملة الفرنسية اقل من الالمانية فكان لدى البلاد فائض فى الحساب الجارى واليوم تضخمت تكاليف العمالة وتعافت البلاد من عجز يعد واحدا من اكبر العجوزات فى منطقة اليورو. والعديد من الشركات الكبيرة تفكر فى ان تحذو حذو بيجو وتغلق مصانعها الامر الذى سيؤدى حتما الى تفاقم مشكلة البطالة التى ارتفعت مؤخرا الى ما يزيد على 3 ملايين بنسبة 10% وتصل بين الشباب الى 25%. فرص الاصلاح: كل هذا يعنى ميراثا مشئوما لفرانسوا اولاند الذى تم انتخابه رئيسا لفرنسا فى شهر مايو الماضى وبالطبع هناك فرصة امامه للاصلاح ولكن لابد من ان تتوافر لديه الشجاعة والارادة القوية اللازمتين فحزبه يسيطر على مقاليد الامور سواء فيما يتعلق بالتشريع او غيره وهو اكثر قدرة على اقناع اتحادات العمال بقبول التغيير نظرا لانتمائه اليسارى. وقد اعترف اولاند بالفعل بافتقار بلاده للتنافسية وبحماسة شديدة وعد بتنفيذ العديد من التغييرات التى اوصى بها احد كبار رجال الاعمال فى تقرير حديث بما فى ذلك تقليل عبء فاتورة التأمينات الاجتماعية عن كاهل الشركات كما ابدى الرئيس الفرنسى رغبته فى ان يجعل سوق العمل اكثر مرونة بل انه تحدث مؤخرا عن تضخم حجم الدولة فى الحياة الاقتصادية، واعدا بتحسين الاوضاع وتقليل الانفاق العام فى الوقت نفسه. ومع ذلك يبدوا ن اولاند لايزال مشتتا وهو ما يدفع مجتمع الاعمال لعدم الوثوق به فقد دفع لتوه بمجموعة من الاجراءات ذات الطابع الاشتراكى بما فى ذلك فرض ضريبة 75% على اصحاب اعلى الدخول، ورفع الضرائب على الشركات وعلى الارباح الرأسمالية وعوائد الاسهم كما انه رفع الحد الادنى للاجور وتراجع عن رفع سن التقاعد المتفق عليه سابقا، وهو ما يبرر فى النهاية تفكير العديد من رجال الاعمال فى ترك البلاد. من ناحية اخرى يتبين ان الحكومات الاوروبية التى اتخذت اجراءات اصلاحية كبيرة قد فعلت ذلك بدافع الشعور بالازمة التى تمر بها مع قناعة شعوبها بعدم وجود خيار اخر وكذلك ايمان القادة السياسيين بأن التغيير اصبح حتميا وهذا لا يسرى على فرنسا او رئيسها فخلال حملته الانتخابية لم يذكر اولاند الحاجة الى اصلاح مناخ الاعمال ليكون مشجعا للبيزنس وبدلا من ذلك ركز على انهاء حالة التقشف ولايزال حزبه الاشتراكى معاديا للرأسمالية ويفتقر الى التحديث. المشكلة الان لا تتعلق بمستقبل فرنسا فحسب وانما باليورو، واولاند كان محقا فى حث المستشارة الالمانية انجيلا ميركل لممارسة الضغوط من اجل فرض سياسة التقشف على الدول المتعثرة لكنه تجاهل ايضا مسألة الاتحاد السياسى اللازم من اجل حل ازمة اليورو فحسبما يؤكد الخبراء لابد من السماح بهيمنة اكبر على السياسات الاقتصادية المحلية وذلك من قبل الاتحاد الاوروبى. وقد وافقت فرنسا على مضض على الاتفاقية المالية الاخيرة التى تعطى الاتحاد الاوروبى سلطة اكبر على ميزانيات الدول الاعضاء لكن المشكلة هى عدم اقتناع طبقة الصفوة ورجال الاعمال او الناخبين بفكرة التنازل فى الوقت الحالى للسيادة المالية، مثلما هو الحال بالنسبة لعدم قبولهم اجراء الاصلاحات الهيكلية اللازمة، وفى حين يدور نقاش مجتمعى فى معظم دول المنطقة عن مدى تنازلهم عن تلك السيادة فان فرنسا تتجنب اى حديث عن مستقبل اوروبا. هل فرنسا كبيرة على الفشل؟ اخر تقرير خاص نشرته الايكونوميست عن دولة اوروبية كبيرة كان فى شهر يونيو 2011 عن ايطاليا الذى ركز على فشل جهود الاصلاح تحت ادارة سيلفيو برلسكونى، وبحلول نهاية العام كان قد اختفى عن الساحة رئيس الوزراء الايطالى وبدأت عملية اصلاح حقيقية وحتى الان يبدو ان فرنسا لاتزال محتفظة بثقة المستثمرين فيها بدليل اقتراضها باسعار فائدة منخفضة ولكن ما لم يظهر الرئيس التزامه الصادق بتغيير مسار البلاد الذى استمر طوال الثلاثين عاما الماضية قد يتغير الوضع فكما تبين للعديد من دول المنطقة يمكن ان تتحول ثقة الاسواق سريعا والازمة قد تظهر فى فرنسا قريبا وربما فى العام المقبل ووقتها قد يتحدد مصير اليورو ومن ثم يبدو ان اولاند ليس لديه وقت طويل لابطال القنبلة فى قلب اوروبا .